فرجعا مردودين مقبوحين، مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حربا قط كان أشد منه فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائرا، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من رجل يخرج [فيحضر] (1) الوقعة ينظر على ما تكون؟ فقال الزبير - وكان من أحدثهم سنا -: أنا، فنفخوا له قربة جعلها في صدره، ثم خرج فسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.
فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا، فقد أظهر الله النجاشي، فوالله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعا إلى مكة، وأقام من أقام. وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشي من طرق عديدة، مطولة ومختصرة (2).
وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب ابن أوس، عن حبيب قال: حدثني عمرو بن العاص، حدثه من فيه إلى أذني قال:
لما انصرفنا من الخندق جمعت رجالا من قريش يسمعون مني فقلت لهم: أترون رأيي وتسمعون مني؟ قالوا: نعم، قلت: إني أرى أمر محمد يعلو الأمور كلها علوا شديدا، وإني قد رأيت [رأيا] (3) ما ترون فيه؟ قالوا: ما هو؟ قلت:
أرى أن ألحق في النجاشي، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فنكون تحت يديه أحب إلينا [من] (3) أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا على محمد، فهم من قد [عرفتموهم] (3) ولا رأينا منهم إلا خيرا، فقالوا: إن هذا للرأي، فقلت: فأجمعوا هدايا نهدها له - وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم.