المكتبة تنور الأفكار، وتحد البصائر، وتزكي الأرواح، وتطهر القلوب، وتصلح الخلائق، وتوطد للشعب جواد الصلاح، وتبلط لهم سبل الخير، وتبوئ الإنسان مقاعد الصدق، وتجعل الإنسان إنسانا، فيغدو والنور قائده، والسلام والفضيلة مهده، والحياة الروحية التي لا نفاد لها غايته ومنتهاه، فيجد في العاجل والآجل انس الاستقرار وسلامة المقام، ودعة المصير، ونجاح البداية والنهاية.
المكتبة تعقم السرائر، وتزيل عنها أوساخ الغباوة، ودنس الغية، وظلم الشبه، ومعرة السدر في وادي الجهل، وتبصر الإنسان مواقع الانحطاط والتسافل، وتوجهه إلى الحياة السعيدة، والفوز مع الخلود.
المكتبة شارة البلاد، وحدائق ذات بهجة لرواد الفضيلة، ونادي حفل النبلاء، ومنتدى زمرة الثقافة، ومعقل كل بحاثة إذا أعضل به البحث، ومنتجع كل ذي فن إذا أشكلت عليه المزاعم، ومكتب الصلة والتعارف بين فضض من أساتذة العلوم والفنون، ورجال البحث والتنقيب، تجمع شملهم، وتوحد صفوفهم، وتؤلف بين قلوبهم، إخوانا على سرر متقابلين، وتوقف كلا منهم على فكرة الآخرين، كل هذه تومي إلى صالح الأمة، وما للشعب عنها محيص.
هذه هي المكتبة، غير أن من المأسوف عليه جدا أن دروس هذا الموضوع الخطير لم تبين بعد عند المسلمين، وما درسوها دراسة كاملة، فأهملوا هذه الإثارة، وخسروا هذه البضاعة، وافتقدوا هذه الثروة الطائلة، وما قدروها حق قدرها، وما عرفت هي اليوم عند الشرقي على ما هي عليه من القيم، ولم يدر ما هي وما خطرها، ولم يقتف الخلف أثر السلف في تقديرها، والإعجاب بها، والاهتمام بشأنها.
فجاء أناس بعداء آخرون عرفوا قيمة هذه الفضيلة، وعلموا من أين تؤكل الكتف، فجاسوا خلال الديار، وأغاروا على كل تراث علمي - كبقية نواميس الشرق - ووجدوها غنيمة باردة، وبذلوا دون جمعها النفس والنفيس، ومضوا على ضوء الثقافة، وشعروا وسائل رقي البلاد بلادهم، وحنكتهم الأيام، ودربتهم