وثالثا: ان التميز بين الخطأ والصواب مما لا بد منه في جميع المدر كات غير أن التجربة وهو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فانا إذا ادركنا بالحس خاصة من الخواص ثم اتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: ان هذه الخاصة دائمي الوجود أو اكثري الوجود لهذا الموضوع، ولو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو اكثري، لكنه دائمي أو اكثري وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية ولا تجريبية.
ورابعا: هب ان جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح ان نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس والتجربة اعتماد على العلم العقلي اضطرارا.
وخامسا: ان الحس لا ينال غير الجزئي المتغير والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكلية وهي غير محسوسة ولا مجربة، فان التشريح مثلا انما ينال من الانسان مثلا افرادا معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة ان لهذا الانسان قلبا وكبدا مثلا، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر وذلك غير الحكم الكلي في قولنا: كل انسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحس والتجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا ادراك كلي ولا فكر نظري ولا بحث علمي، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية والمدرك لهذه الأحكام العامة، ولا ريب ان الانسان معه شئ شأنه هذا الشأن، وكيف يتصور ان يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شئ شأنه الخطأ في فعله رأسا؟ أو يمكن ان يخطئ في فعله الذي خصه به التكوين؟
والتكوين انما يخص موجودا من الموجودات بفعل من الافعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط؟
واما وقوع الخطأ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الامر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي.