على أن الانسان مختار في فعله، غير مجبور عليه عند إصداره. وكل عاقل يرى أن حركته على الأرض عند مشيه عليها تغاير حركته عند سقوطه من شاهق إلى الأرض، فيرى أنه مختار في الحركة الأولى، وأنه مجبور على الحركة الثانية.
وكل إنسان عاقل يدرك بفطرته أنه وإن كان مختارا في بعض الأفعال حين يصدرها وحين يتركها إلا أن أكثر مبادئ ذلك الفعل خارجة عن دائرة اختياره، فإن من جملة مبادئ صدور الفعل نفس وجود الانسان وحياته، وإدراكه للفعل، وشوقه إليه، وملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه، وقدرته على إيجاده، ومن البين أن هذا النوع من المبادئ خارج عن دائرة اختيار الانسان، وأن موجد هذه الأشياء في الانسان هو موجد الانسان نفسه.
وقد ثبت في محله أن خالق هذه الأشياء في الانسان لم ينعزل عن خلقه بعد الايجاد، وأن بقاء الأشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن، وليس مثل خالق الأشياء معها كالبناء يقيم الجدار بصنعه، ثم يستغني الجدار عن بانيه، ويستمر وجوده وإن فني صانعه، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه، ثم يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره. بل مثل خالق الأشياء معها " ولله المثل الاعلى " كتأثير القوة الكهربائية في الضوء. فإن الضوء لا يوجد إلا حين تمده القوة بتيارها، ولا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين، فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوة في حين، انعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن. وهكذا تستمد الأشياء وجميع الكائنات وجودها من مبدعها الأول في كل وقت من أوقات حدوثها وبقائها، وهي مفتقرة إلى مدده في كل حين، ومتصلة برحمته الواسعة التي وسعت كل شئ. وعلى ذلك ففعل العبد وسط بين الجبر والتفويض، وله حظ من كل منهما. فإن إعمال قدرته في الفعل أو الترك وإن كان باختياره. إلا أن هذه القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض من الله، فالفعل مستند إلى العبد من جهة والى الله من جهة أخرى والآيات