ولقد أحسن في البيت الأخير كل الاحسان، لأن المعنى الذي قصده تكامل فيه وانتهى إلى الغاية عنده وساعده اللفظ وحسن العبارة، فلم يبق عذر في قبول القلوب له وعلوقها به. ومن شأن ابن الرومي أن يورد المعنى ثم يأخذ في شرحه في بيت آخر وإيضاحه تشعيبه وتفريعه، فربما أخفق وأكدى وربما أصاب فأصمى، لأن الشعر إنما تحمد فيه الإشارة والاختصار والايماء إلى الأغراض وحذف فضول القول.
وفي هذه الأبيات قد اتفق له لما كرر المعنى وأعاده وأبداه خلص في البيت الأخير وصفا وعذب مذاقة، لأنه في أول البيت قد أشار إلى هذا المعنى الموجود في آخرها، وفي البيت الثاني أيضا قد أعاد ذلك، وفي البيت الثالث قد ألم بالمعنى بعض الإلمام، لأنه ذكر أن سهام الدهر تقرب منه وأخلق أن تصيب سواده يعني شخصه، ولم يذكر العلة في إصابتها له، وهي إضاءة الشيب لمقاتله وهدايتها إلى مراميه كما ذكره في البيتين الأولين، وطبق المفصل في البيت الرابع، لأنه جعل الدهر في زمان الشباب يرميه بسهامه وهو لا يراه لأن سواد شبابه ساتر له.
ومعنى " كرامي الليل " الرامي في الليل، فالليل ظرف للرامي وليس بمفعول صحيح. ثم قال " فلما أضاء الشيب شخصي رمانيا " ومعنى رمانيا أصابني، كما قال الشاعر:
ولما رمى شخصي رميت سواده * ولا بد أن يرمى سواد الذي يرمي وفي شعري ما يشبه هذا المعنى، وهو:
ولاح بمفرقي قبس منير * يدل على مقاتلي المنونا فأما قوله رحمه الله في الأبيات " ولقد يكون وما له من عاذل " فمعناه متكرر في الشعر متردد، والشباب أبدا يوصف بأن صاحبه معذور مغتفر الجرم وذو الشيب