وأيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة: " إنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين "، فوجب أن يحمل قوله الآن: " وكمال توحيده نفي الصفات عنه "، على صفات المخلوقين، حملا للمطلق على المقيد.
* * * ولقائل أن يقول: لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية، وهو قوله: " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف "، لان هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين، بل كان ينبغي أن يستدل بأن صفات المخلوقين من لوازم الجسمية والعرضية، والبارئ ليس بجسم ولا عرض، ونحن قد بينا أن مراده عليه السلام إبطال القول بالمعاني القديمة، وهي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم، ولهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية، فأما كونه قادرا وعالما فأصحابها أصحاب الأحوال، وقد بينا أن مراده عليه السلام بقوله: " ليس لصفته حد محدود "، أي لكنهه وحقيقته. وأما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين، لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة، وأين هذا من باب حمل المطلق على المقيد!، لا سيما وقد ثبت أن التعليل والاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين.
وقد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله عليه السلام نفي الصفات عنه بقوله: " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف "، بكلام عجيب، وأنا أحكي ألفاظه لتعلم، قال: معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل، والفاعل غير الفعل، لان ما يوصف به الغير إنما هو الفعل، أو معنى الفعل، كالضارب والفهم، فإن الفهم والضرب كلاهما فعل، والموصوف بهما فاعل، والدليل لا يختلف شاهدا وغائبا، فإذا كان تعالى قديما وهذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت، يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها ومدبرها.