أبو عبد الله البريدي بواسط على بعض أمور النظر، وقال الثعالبي: كان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة زائرا ومادحا فأكرم مثواه وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله، وزيد في رزقه ورتبته، وكان المهلبي الوزير وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه جدا، ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء، ويعاشرون منه من تطيب عشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره.
حديث حفظه وذكائه كان المترجم آية في الحفظ والذكاء، قال ولده القاضي أبو علي المحسن في (نشوار المحاضرة) ص 176: حدثني أبي قال: سمعت أبي ينشد يوما وسني إذ ذاك خمس عشرة سنة بعض قصيدة دعبل الطويلة التي يفتخر فيها باليمن ويعدد مناقبهم ويرد على الكميت مناقبه بنزار أولها:
أفيقي من ملامك يا ظعينا * كفاني اللوم مر الأربعينا وهي نحو ستمائة بيت فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخر اليمن وأهلي فقلت: يا سيدي تخرجها إلي حتى أحفظها، فدافعني فألحت عليه فقال: كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتا أو مائة بيت ثم ترمي بالكتاب وتخلقه علي. فقلت: ادفعها إلي. فأخرجها وسلمها إلي وقد كان كلامه أثر في فدخلت حجرة كانت برسمي من داره فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشئ غير حفظها فلما كان في السحر كنت قد فرغت من جميعها وأتقنتها فخرجت إليه غدوة على رسمي فجلست بين يديه فقال:
هي، كم حفظت من القصيدة؟ فقلت: قد حفظتها بأسرها. فغضب وقد رآني قد كذبته وقال لي: هاتها، فأخرجت الدفتر من كمي فأخذه وفتحه ونظر فيه وأنا أنشد إلى أن مضيت في أكثر من مائة بيت فصفح منها عدة أوراق وقال: أنشد من هيهنا. فأنشدت مقدار مائة بيت إلى آخرها، فهاله ما رآه من حسن حفظي فضمني إليه وقبل رأسي وعيني وقال: بالله يا بني لا تخبر بها أحدا فإني أخاف عليك من العين. وذكر ابن كثير هذه القصة ملخصا في تاريخه 11 ص 227.