بلاغة بعضهم عن بعض، ويتفاوتون في ذلك بقدر تفاوت بلاغتهم، فإذا تجاوز بلاغة القرآن ذلك المقدار الذي جرت به العادة في بلاغة العبد، وبلغت حدا لا تبلغه بلاغ أبلغهم، ظهر كونه ناقضا للعادة، وإنما يبين كونه كذلك، إذا بينا أنه تحداهم بمثل القرآن، فعجزوا عنه، وعما يقاربه.
فإذا قيل: فبماذا علمتم أن القرآن ظهر معجزة له دون غيره، وما أنكرتم أن الله بعث نبيا غير محمد، وآمن محمد بن، فتلقته منه محمد، ثم قتل ذلك النبي وادعاه معجزة لنفسه.
الجواب أنا نعلم باضطرار أنه مختص به كما نعلم في كثير من الاشعار والتصانيف أنها مختصة بمن تضاف إليه كشعر امرء القيس وكتاب العين للخليل، ثم إن القرآن ظهر منه وسمع، ولم يجر، في الناس ذكر أنه ظهر لغيره، ولا جوزوه، وكيف يجوز في حكمه الحكيم أن يمكن أحدا من ذلك وقد علم حال محمد في عزف نفسه عن ملاذ الدنيا من أول أمره إلى أواخره، كيف يتهم بما قالوه.
فان قيل: لعل من تقدم محمدا كامرء القيس وأضرابه لو عاصره لأمكنه معارضته، قلنا: إن التحدي لم يقع بالشعر فيصح ما قلته، وكان في زمانه صلى الله عليه وآله وقريبا منه من قدم في البلاغة من تقدم، ولأنه ما كلفهم أن يأتوا بالمعارضة من عند أنفسهم، وإنما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن من كلامهم أو كلام غيرهم ممن تقدمهم، فلو علموا أن في كلامهم ما يوازي بلاغة القرآن لاتوا به، ولقالوا إن هذا كلام من ليس بمنبئ وهو مساو للقرآن في بلاغته ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وآله ما قرأ الكتب ولا تتلمذ لاحد من أهل الكتاب، وكان ذلك معلوما لأعدائه، ثم قص عليهم قصص نوح، وموسى، ويوسف، وهود، وصالح، وشعيب ولوط، وعيسى وقصة مريم على طولها، فما رد عليه أحد من أهل الكتاب شيئا منها، ولا خطأوه في شئ من ذلك، ومثل هذه الأخبار لا يتمكن منها إلا بالتبخيت والاتفاق (1) وقد نبه الله عليه بقوله " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا