الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ".
فهذا آخر أمره وهو معنى قوله عز وجل: " ثم إذا شاء أنشره " فما لمن هذا حاله والتكبر؟ بل ماله وللفرح في لحظة فضلا عن البطر والتجبر؟ فقد ظهر له أول حاله ووسطه، ولو ظهر آخره والعياذ بالله ربما اختار أن يكون كلبا وخنزيرا ليصير مع البهائم ترابا، ولا يكون إنسانا يسمع خطابا ويلقى عذابا، وإن كان عند الله مستحقا للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب، وهو بمعزل عن الحساب والعذاب، والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق.
ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته، وقبح صورته، ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه، ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقاه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيف، فمن هذا حاله في العاقبة - إلا أن يعفى عنه، وهو على شك من العفو - فكيف يتكبر؟ وكيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد لها فضلا؟
وأي عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة، إلا أن يعفو الكريم بفضله.
أرأيت من جنى على بعض الملوك بما استحق به ألف سوط، فحبس في السجن وهو منتظر أن يخرج إلى العرض، ويقام عليه العقوبة، على ملا من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا؟ فكيف يكون ذله في السجن؟ وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه، وقد استحق العقوبة من الله تعالى، ولا يدري كيف يكون أمره فيكفيه ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا.
فهذا هو العلاج العلمي القاطع لأصل الكبر، وأما العلاج العملي فهو التواضع بالفعل لله تعالى ولسائر الخلق، بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، وما وصل إليه من أحوال الصالحين، ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أنه كان يأكل على الأرض، ويقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد.
وقيل لسلمان: لم لا تلبس ثوبا جيدا؟ فقال: إنما أنا عبد، فإذا أعتقت يوما لبست، أشار به إلى العتق في الآخرة.