فهذا أوسط أحواله فليتأمله، وأما آخره ومورده فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى: " ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء انشره " (1) ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته، فيعود جمادا كما كان أول مرة لا تبقى إلا شبه أعضائه ولا صورته لا حس فيها ولا حركة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة قذرة، ثم تبلى أعضاؤه وصورته، وتفتت أجزاؤه، وتنخر عظامه، فتصير رميما ورفاتا، فتأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما، وبخديه فيقطعهما، وبساير أجزائه فتصير روثا في أجواف الديدان، وتكون جيفة تهرب منه الحيوان، ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الانتان.
وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابا يعمل منه الكيزان، أو يعمر به البنيان، ويصير مفقودا بعد ما كان موجودا، وصار كأن لم يغن بالأمس حصيدا كما كان أول مرة أمدا مديدا.
وليته بقي كذلك، فما أحسنه لو ترك ترابا، لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شدائد البلاء، فيخرج من قبره عد جمع أجزائه المتفرقة، ويخرج إلى أهوال القيامة، فينظر إلى قيامة قائمة، وسماء ممزقة مشققة، وأرض مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة، وشمس منكسفة، وأحوال مظلمة، وملائكة غلاظ شداد، وجحيم تزفر، وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر.
ويرى صحائف منشورة، فيقال له: " اقرأ كتابك " فيقول: وما هو؟ فيقال:
كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها، وتتكبر بنعيمها، وتفتخر بأسبابها، ملكان رقيبان، يكتبان عليك ما تنطق به أو تعمله، من قليل وكثير، ونقير وقطمير، وأكل وشرب، وقيام وقعود، وقد نسيت ذلك وأحصاه الله فهلم إلى الحساب واستعد للجواب، أو يساق إلى دار العذاب، فينقطع قلبه هول هذا الخطاب، من قبل أن ينشر الصحف، ويشاهد ما فيها من مخازيه، فإذا شاهدها قال: " يا ويلتنا ما لهذا