وهو على أخس الأوصاف والنعوت، إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا، بل خلقه جمادا ميتا لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك، ولا ينطق ولا يبطش، ولا يدرك ولا يعلم، فبدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبجهله قبل علمه، وبعماه قبل بصره، وبصممه قبل سمعه، وببكمه قبل نطقه، وبضلالته قبل هداه، بفقره قبل غناه، وبعجزه قبل قدرته.
فهذا معنى قوله تعالى: " هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه " كذلك خلقه أولا ثم أمتن عليه فقال: " ثم السبيل يسره " وهذه إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت، ولذلك قال: " من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل " ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جمادا ميتا ترابا أولا، ونطفة ثانيا وأبصره بعد ما كان فاقد البصر، وقواه بعد الضعف، وعلمه بعد الجهل، وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها، وأغناه بعد الفقر، واشبعه بعد الجوع، وكساه بعد العرى، وهداه بعد الضلال.
فانظر كيف دبره وصوره، وإلى السبيل كيف يسره، وإلى طغيان الانسان ما أكفره، وإلى جهل الانسان كيف أظهره؟ فقال تعالى: " أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين " (1) " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " (2) فانظر إلى نعمة الله عليه، كيف نقله من تلك القلة والذلة والخسة والقذارة، إلى هذه الرفعة والكرامة، فصار موجودا بعد العدم، وحيا بعد الموت، وناطقا بعد البكم، وبصيرا بعد العمى، وقويا بعد الضعف، وعالما بعد الجهل، ومهديا بعد الضلالة، وقادرا بعد العجز وغنيا بعد الفقر فكان في ذاته لا شئ - وأي شئ اخس من لا شئ؟ وأي قلة أقل من العدم المحض - ثم صار بالله شيئا، وإنما خلقه من التراب الذليل والنطفة القذرة بعد العدم المحض، ليعرفه خسة ذاته، فيعرف به نفسه، وإنما أكمل