النعمة عليه ليعرف بها ربه، ويعلم بها عظمته وجلاله، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به عز وجل.
فلذلك أمتن عليه، فقال تعالى: ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين " (1) وعرف خسته أولا فقال: ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة " (2) ثم ذكر مننه فقال: فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى " ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده ابتداء بالاختراع فمن كان هذا بدؤه، وهذا أحواله، فمن أين له البطر والكبرياء؟ والفخر والخيلاء؟
وهو على التحقيق أخس الأخساء، وأضعف الضعفاء.
نعم لو أكمله وفوض إليه أمره، وادام له الوجود باختياره، لجاز أن يطغى وينسى المبدء والمنتهى، ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة، والطبايع المتضادة: من المرة، والبلغم، والريح والدم، ليهدم البعض من أجزائه البعض، شاء أم أبى، رضي أم سخط، فيجوع كرها، ويعطش كرها، ويمرض كرها، ويموت كرها، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا خيرا ولا شرا، يريد أن يعلم الشئ فيجهله، ويريد أن يذكر الشئ فينساه ويريد أن ينسى الشئ فيغفل عنه فابغفل، ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوسواس والأفكار بالاضطرار، فلا يملك قلبه قلبه، ولا نفسه نفسه.
يشتهي الشئ، وربما يكون هلاكه فيه، ويكره الشئ، ويكون حياته فيه، يستلذ الأطعمة فتهلكه وترديه، ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه، لا يأمن في لحظة من ليله ونهاره أن يسلب سمعه وبصره وعلمه وقدرته، وتفلج أعضاؤه ويختلس عقله، ويختطف روحه، ويسلب جميع ما يهواه في دنياه، وهو مضطر ذليل، إن ترك ما بقي، وإن اختطف فني، عبد مملوك لا يقدر علي شئ من نفسه ولا من غيره، فأي شئ أذل منه لو عرف نفسه؟ وأنى يليق الكبر به لولا جهله؟