الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء، وإن كان الحق هو الثاني وهو أن الحاصل في الخيال شئ آخر مخالف للمبصرات والمسموعات، فحينئذ يعود السؤال وهو أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات؟ وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمات والعبارات وجد انا لا نشك أنها حروف متوالية على العقل متعاقبة على الذهن؟ فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة، وأما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات خفية (1).
واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا: فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الانسان أو انسان آخر، وإما شئ روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الانسان، سواء قيل: إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك، وإما أن يقال: خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى، أما القسم الأول وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الانسان فهذا قول باطل، لأن الذي يحصل باختيار الانسان يكون قادرا على تركه، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الانسان لكان الانسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره.
وأما القسم الثاني وهو أنها حصلت بفعل انسان آخر فهو ظاهر الفساد، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى، وأما الذين قالوا: إن الله لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا: إن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين وأما الذين قالوا: إنه لا يقبح من الله شئ فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من نسبة