إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (1) " إلا أنه بقي لقائل أن يقول: فالانسان إنما أقدم على المعصية بتذكير الشيطان، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم التسلسل (2) وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر ثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه، ولابد لذلك الاعتقاد الحادث من محدث، وما ذاك إلا الله تعالى، وعند هذا يظهر أن الكل من عند الله تعالى، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق، وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل صلى الله عليه وآله وهو قوله: " وأعوذ بك منك " والله أعلم.
المسألة الحادية عشر: اعلم أن الانسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتا خفية وحروفا خفية وكأن متكلما يتكلم معه ومخاطبا يخاطبه، وهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة: إن هذه الأشياء ليست حروفا ولا أصواتا، وإنما هي تخيلات الأصوات والحروف، وتخيل الشئ عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صورة البحار والاشخاص، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة، فإذا أحسسنا صورة الفلك والشمس والقمر في المرآة فان ذلك ليس بأنه حضرت (3) ذوات هذه الأشياء في المرآة فان ذلك محال، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وصورها وأمثلتها فإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك، فهذا قول جمهور الفلاسفة، ولقائل أن يقول: هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو للحروف والكلمة في الماهية أولا؟ فان حصلت المساواة فقد عاد