وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا إن جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها، وإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم فجوزوا أن يقال: انقلبت مياه البحار ذهبا وفضة والجبال ياقوتا وزبرجدا، وحصل (1) في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر، ثم كما فتحت العين أعدمها الله تعالى عجزوا عن الفرق، والسبب في هذا التشويش أن هؤلاء المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات فزعموا (2) أن بعضها واجبة، وبعضها غير واجب، فلما لم يجدوا قانونا مستقيما ومأخذا سليما بين البابين تشوش الامر عليهم، بل الواجب أن يسوي بين الكل فيحكم على الكل بالوجوب، كما هو قول الفلاسفة، أو على الكل بعدم الوجوب كما هو قول الأشعري، فأما التحكم في الفرق فهو بعيد.
إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن وأن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه لا يمتنع أن لا نراها وإن كانوا حاضرين، هذا على قول الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه.
وأنا متعجب من هؤلاء المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم، وذلك لأن القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة والجن أيضا كذلك، وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة، فإذا يجب في الملك والجن أن يكونوا كذلك، ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبدا وهم الكرام الكاتبون والحفظة، ويحضرون أيضا عند قبض الأرواح وقد كانوا يحضرون عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أحدا من القوم ما كان يراهم، وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحدا، فان وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها؟ وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم، وإن كانوا موصوفين بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم: إن البنية شرط الحياة، فان قالوا:
إنها أجسام لطيفة ولكنها للطافتها لا تقدر على الاعمال الشاقة، فهذا إنكار لصريح القرآن، وبالجملة فحالهم في الاقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيبة (3).