الثاني: هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية، فلم لا يجوز أن يقال: إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان. فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذهب.
وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا: الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار، وهذان المعنيان أعراض فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض والأشياء المختلفة في الماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم، فلم لا يجوز أن يقال:
إن الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة، وإن كانت مشتركه في قبول الحجمية والمقدار. وإذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال: أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها قادرة على الاعمال الشاقة لذواتها، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا: إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة؟ وعلى هذا التقدير فان الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس، وعلى التصرف فيها، وإنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الاجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال الاحتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها، فلم يجز المصير إلى القول بابطالها.
والجواب عن الشبهة الثانية أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد، وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه، أما حال غيره فإنه لا يعلمها، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال.