أثابهم وإن خالفوه عاقبهم أشبه ذلك اختيار الإنسان لعبيده وتمييزه للمطيع منهم من العاصي فأطلق عليه لفظ الاختبار مجازا (وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرف الآيات لقوم يعقلون) أي ضرب لكم الأمثال للدنيا والآخرة والمطيع والعاصي وصرف الآيات الدالة على أحوال كل واحد منهما وكررها بوجوه مختلفة زيادة للتقرير والبيان لقوم يعقلون الغرض من تلك الأمثال والآيات ويتفكرون فيما هو المقصود منهما فيعكفون عليه ويتمسكون به (ولا قوة إلا بالله) أي لا قوة لنا على الإتيان بالطاعات والاجتناب عن المنهيات والامتثال بجميع الخيرات إلا بتوفيق الله وهذا غاية الابتهال وإظهار إليه تعالى (فازهدوا فيما زهدكم الله عز وجل فيه) الزهد ترك حب الدنيا والركون الفقر إليها وهو من أعظم أسباب السلوك إلى الله تعالى والبلوغ إلى درجة الأبرار وله مراتب أعلاها حذف كل شاغل من التوجه إلى حضرة الحق (فان الله عز وجل يقول) للتزهيد في الدنيا (وقوله الحق) الثابت الذي لا ريب فيه (إنما مثل الدنيا) في سرعة زوالها بعد إقبالها وإقبال الناس إليها.
(كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) وامتزج حتى بلغ حد الكمال أو اشتبك بسببه حتى اختلط بعضه ببعض (مما يأكل الناس والأنعام) من الثمرات والحبوبات وأنواع النباتات (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها) بالتمتع والتلذذ بها وبحاصلها (أتاها أمرنا) بهلاكها (ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا) من أصولها (كأن لم تغن بالأمس) ولم تقم قريبا من وقت الزوال والفناء من غنى كرضى إذا قام وعاش وهذا مثل في سرعة زوال الشيء بعد وجوده (كذلك نفصل الآيات) الدالة على سرعة زوال الدنيا وفنائها (لقوم يتفكرون) فيها ويجدون ما هو المقصود منها.
واعلم أن أهل العربية قالوا الأصل في الكاف أن يليه المشبه به مثل زيد كالأسد إلا أنه قد يليه غيره كما في هذه الآية إذ ليس المقصود تشبيه حال الدنيا بالماء بل المراد تشبيه حالها في خضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات الحاصل من الماء يكون أخضر ناضرا شديدة الخضرة ثم ييبس فتطيره الرياح كأن لم يكن ثم أشار إلى نتيجة هذا التفكر بقوله (فلا تركنوا إلى الدنيا) الركون إليها شامل للركون إلى أهلها الظالمين الذين اتخذوها دار قرار طلبا لما في أيديهم كما أشار إليه بقوله (فإن الله عز وجل قال لمحمد صلى الله عليه وآله (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) قد أراد بهذا غيره لأنه (صلى الله عليه وآله) أرفع من أن يركن إليهم ثم أكد الزجر عن الركون إليها بقوله (ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان) فيه تنبيه على أن الركون إليها لا بهذا الاعتبار بل باعتبار تحصيل الكفاف المتوقف عليه بقاء الحياة وفعل