كانت مايلة إلى الباطل والمعصية فمن ثم وقع الاختلاف والتعارف بينهما ولا يقع الايتلاف أبدا كما روي: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وفيه تنبيه على أن اتحاد المنازل في العالم الجسماني لا يستلزم اتحادها في العالم الروحاني ولا بالعكس (لا تحبونهم أبدا ولا يحبونكم) لأن الشيء لا يحب ضده ولا يميل إليه ولذلك ترى كلا من صاحب الخير والشر يميل إلى الجنة مثله ويحبه.
(غير أن الله تعالى أكرمكم بالحق وبصركموه ولم يجعلهم من أهله) المراد بالحق جميع ما أنزل الله تعالى على رسوله وأمره بتبليغه وأعظمه الولاية وقد أكرمكم بجميع ذلك جعلكم على بصيرة منه ولم يجعلهم من أهله لسلب التوفيق عنهم لإبطالهم الفطرة الأصلية الداعية إلى الخير (فتجاملونهم وتصبرون عليهم) لأنكم على خصال شريفة منها المجاملة والمصابرة (وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيء) لفقدهم جل الفضائل بل كلها إلا ما شذ ومن المعلوم أن بقاء المخالطة متوقف على الصبر والمجاملة بين الطرفين أو بتحققهما من أحدهما ولا يتصوران فيهم لما ذكر فوجبا عليكم لأنهما مطلوبان منكم ولعلمكم بأن فيهما فوائد كثيرة كنجدة النفس وإبقاء النظام وحوالة الانتقام إلى الله وترقب أجر الصابرين وتوقع الأمن من القتل والأسر والبهت سيما إذا كان الظالم قويا وتوقع صداقته وترحمه بمشاهدة العجز والانكسار وفي ضدهما مفاسد كثيرة ولذلك صبر جميع الأنبياء والأوصياء على ما وصل إليهم من جهلاء الأمة ثم أشار إلى أن كل واحد منهم لا يكتفي بما عنده من قصد الإيذاء والصد عن الحق بل هم يتعاونون فيه لشدة الاهتمام به بقوله:
(وحيلهم وسواس بعضهم إلى بعض) الحيلة المكر والروية في الأمور والتصرف فيها للتوصل بها إلى المقصود والوسواس بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، والوسوسة الصوت الخفي يقال وسوس الرجل بلفظ ما سمى فاعله إذا تكلم بكلام خفي يكدره وهو فعل لازم ورجل موسوس بالكسر ولا يقال بالفتح ولكن وسوس له أو إليه أي يلقى إليه الوسوسة ثم علل ذلك بقوله:
(فإن أعداء الله إن استطاعوا صدوكم عن الحق) إذ اهتمامهم بالصد المتوقف على الاستطاعة يقتضي الإجتهاد في تحصيلها من كل وجه ومن التعاون ثم أشار إلى أن تلك الحيل لا تنفعهم ولا تضركم بقوله (يعصمكم الله من ذلك) لأنه إما خير أو دعاء وعلى التقديرين لا يضر كيدهم مع عصمة الله تعالى (فاتقوا الله) لأنها حرز من المكاره الدنيوية ومن يتق الله يجعل له مخرجا وطريقا إلى المثوبات الأخروية إن الله يحب المتقين.
(وكفوا ألسنتكم إلا من خير) وهو ما ينفع في الآخرة وفي الدنيا أيضا بشرط أن لا بكون مخالفا