الصلاة في المقابر، فكذلك حديث أبي هريرة يفيد كراهة قراءة القرآن في المقابر، ولا فرق (1). ولذلك كان مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وغيرهم (2) كراهة للقراءة عند القبور، وهو قول الإمام أحمد فقال أبو داود في مسائله (ص 158):
(١) وقد استدل جماعة من العلماء بالحديث على ما استدل به البخاري، وأيده الحافظ في شرحه، وقد ذكرت كلامه في المسألة الآتية (رقم ١٢٨ فقره ٧) (٢) ذكره عنهم شيخ الاسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) (ص ١٢٨) وقال:
(ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لان ذلك كان عنده بدعة، وقال مالك: ما عملت أحدا يفعل ذلك، فعلم أن الصحابة، والتابعين ما كانوا يفعلونه).
وقال في (الاختيارات العملية) (ص ٥٣) (والقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر فإنها تستحب ب (ياسين)).
قلت: لكن حديث قراءة ياسين ضعيف كما تقدم (ص ١١) والاستحباب حكم شرعي، ولا يثبت بالحديث الضعيف كما هو معلوم من كلام ابن تيمية نفسه في بعض مصنفاته وغيرها.
وأما جاء في (كتاب الروح) لابن القيم (ص ١٣): قال الحلال: وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق: ثنا علي ابن موسى الحداد - وكان صدوقا - قال: كنت مع أحمد بن جنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفنالميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة! فلما خرجت من المقابر، قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، قال:
كتبت عنه شيئا؟ قال: نعم، قال: فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، (الأصل: الحلاج وهو خطأ) عن أبيه أنه أوصي إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل: يقرأ).
فالجواب عنه من وجوه:
الأول: إن في ثبوت هذه القصة عن أحمد نظر، لان شيخ الحلال الحسن بن أحمد الوراق لم أجد ترجمة فيما عندي الان من كتب الرجال، وكذلك شيخه علي بن موسى الحداد لم أعرفه، وإن قيل في هذا السند أنه كان صدوقا، فإن الظاهر أن القائل هو الوراق هذا، وقد عرفت حاله.
الثاني، إنه إن ثبت ذلك عنه فإنه أخص مما رواه أبو داود عنه، وينتج من الجمع بين الروايتين عنه أن مذهبه كراهة القراءة عند القبر إلا عند الدفن.
الثالث: أن السند بهذا الأثر لا يصح عن ابن عمر، ولو فرض ثبوته عن أحمد، وذلك لان عبد الرحمن ابن العلاء بن اللجلاج معدود في المجهولين، كما يشعر بذلك قول الذهبي في ترجمته من (الميزان): (ما روي عنه سوى مبشر هذا)، ومن طريقة رواه ابن عساكر (١٣ / ٣٩٩ / ٢) وأما توثيق ابن حيان إياه فمما لا يعتد به لما أشهر به من التساهل في التوثيق، ولذلك لم يعرج عليه الحافظ في (التقريب) حين قال في المترجم: (مقبول) يعني عند المتابعة وإلا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة، ومما يؤيد ما ذكرنا أن الترمذي مع تساهله في التحسين لما أخرج له حديثا آخر (٢ / ١٢٨) وليس له عنده سكت عليه ولم يحسنه!
الرابع: أنه لو ثبت سنده كل عن ابن عمر، فهو موقوف لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه أصلا.
ومثل هذا الأثر ما ذكره ابن القيم أيضا (ص ١٤):
(وذكر الحلال عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون القرآن).
فنحن في شك من ثبوت ذلك عن الشعبي بهذا اللفظ خاصة، فقد رأيت السيوطي قد أورده في (شرح الصدور) (ص ١٥) بلفظ:
(كانت الأنصار يقرؤون عند الميتسورة البقرة). قال:
(رواه ابن أبي شيبة والمروزي) أورده في (باب ما يقول الانسان في مرضالموت، وما يقرأ عنده).
ثم رأيته في (المصنف) لابن أبي شيبة (٤ / ٧٤) وترجم له بقوله:
(باب ما يقال عند المريض إذا حضر) ".
فتبين أن في سنده مجالدا وهو ابن سعيد قال الحافظ في (التقريب):
(ليس بالقوي، وقد تغيير في آخر عمره).
فظهر بهذا أن الأثر ليس في القراءة عند القبر بل عند الاحتضار، ثم هو على ذلك ضعيف الاسناد.
وأما حديث (من مر بالمقابر فقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشر مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الاجر بعدد الأموات).
فهو حديث باطل موضوع، رواه أبو محمد الحلال في (القراءة على القبور) (ق ٢٠١ / ٢) والديلمي عن نسخة عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه، وهي نسخة موضوعة باطلة لا تنفك عن وضع عبد الله هذا أو وضع أبيه، كما قال الذهبي في (الميزان) وتبعه الحافظ ابن حجر في (اللسان) ثم السيوطي في (ذيل الأحاديث الموضوعة)، وذكر له هذا الحديث وتبعه ابن عراق في (تنزيه الشريعة المرفوعة، عن الأحاديث الشيعة الموضوعة).
ثم ذهل السيوطي عن ذلك فأورد الحديث في (شرح الصدور) (ص ١٣٠) برواية أبي محمد السمرقندي في (١ فضائل قل هو الله أحد) وسكت عليه! نعم قد أشار قبل ذلك إلى ضعفه، ولكن هذا لا، يكفي فإن الحديث، موضوع باعترافه فلا يجزي الاقتصار على تضعيفه كما لا يجوز السكوت عنه، كما صنع الشيخ إسماعيل العجلوني في (كشف الخفاء) (٢ - ٣٨٢) فإنه عزاه للرافعي في تاريخه وسكت عليه! مع أنه وضع كتابه المذكور للكشف (عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس)! ثم إن سكوت أهل الاختصاص عن الحديث قد يوهم من لا علم عنده به أن الحديث مما يصلح للاحتجاج به أو العمل به في فضائل الاعمال كما يقولون، وهذا ما وقع لهذا الحديث، فقد رأيت بعض الحنيفة قد احتج بهذا الحديث للقراءة عند القبور وهو الشيخ الطهطاوي على (مراقي الفلاح) (ص 117)! وقد عزاه هذا إلى الدارقطني، وأظنه وهما، فإني لم أجد غيره عزاه إليه، ثم إن المعروف عند المشتغلين بهذا العلم أن العزو إلى الدارقطني مطلقا يراد به كتابه (السنن)، وهذا الحديث لم أره فيه. والله أعلم.