ولما لم ينم الإيمان بيسوع إلا بعد الفصح، فكان من الممكن أن تبدو حياته في الأرض لعيني مرقس زمن ظهور حقيقي، ولكن تعترض سبيله ضرورة كتمان السر ويحده عدم فهم التلاميذ. وعدم الفهم هذا يبرز على وجه غير منتظر سر يسوع، ذلك السر الذي لا يمكن تفسيره بمعزل عن الإيمان الفصحي. وعدم الفهم هذا له قيمة مثالية لإيمان المسيحيين المعرض دائما كإيمان التلاميذ للتقصير في مسايرة الوحي الإلهي. فالصليب لا يزال حجر عثرة، ويقتضي الإنجيل، لكي يكون معلنا ومقبولا في حقيقته، لا الأمانة لكلام شهادة الإيمان فقط، بل على الخصوص أصالة الحياة في اتباع يسوع أيضا. ولا يدرك معنى سره بمعزل عن اعتناق حالة التلميذ بما يرافقها من بطء وعسر.
[أسلوب مرقس] أثني على مرقس لمهارته في الرواية. فإذا كانت مفردات لغته قليلة وغير متنوعة (إلا للتعبير عن الأشياء الحسية وعن ردود الفعل التي يثيرها يسوع) فإن جمله غير مترابطة وأفعاله المصرفة من غير الاهتمام بتوافق الأزمنة، بل اضطراب أسلوبه نفسه، تساهم في حيوية رواية قريبة من الانشاء الشفهي. ولكن، من خلال التفاصيل التي تصور الأحداث تصويرا حيا، كثيرا ما تبدو اللحمة في طابع مخطط يكشف عن وجود مواد تقليدية أو مسبوكة لاستعمال الجماعات. وعندما يمثل الراوي مشهدا حيا، لا يأتينا بمحضر ساذج لمراقب مباشر. ثم إن عدم وجود أي ترتيب زمني مترابط وعدم الاكتراث بشعور الأشخاص وصورة الجمع المفرغة في قالب واحد تحول كلها دون مطالعة هذا الإنجيل كأنه مجرد سيرة ليسوع. ولكن مرقس، من غير تكلف، بارع في إيحاء صورة حية لانسان، تناقض الصور المبتذلة، بما في تلك الصورة الحية من ردود فعل يسوع غير المنتظرة وشفقته أو سرعة انفعاله واستغرابه أو لهجته القاطعة. وكل نفسه تظهر في نظرة واحدة، ولكن تلك النظرة قد تكون مليئة بالغضب أو الرأفة (3 / 5 و 34) والاستفهام أو الانتباه المركز (5 / 32 و 11 / 11) والعطف (10 / 21) والرزانة الكاسفة أو المشرقة (10 / 23 و 27). وأمام هذا الإنسان فجميع المواقف أيضا ممكنة، من الدهش إلى الإعجاب ومن الحذر إلى العزم على القتل ومن التعلق غير الواعي عند التلاميذ إلى الفهم والهجر.
[أصل الكتاب] منذ نحو السنة 150 أثبت بابياس، مطران هيراپوليس، نسبة الإنجيل الثاني لمرقس، " لسان حال " بطرس في رومة. وكانوا يقولون إن الكتاب ألف في رومة بعد وفاة بطرس (مقدمة الرد على مرقيون في القرن الثاني، إيريناوس) أو قبل وفاة بطرس (اقليمنضس الإسكندري). أما مرقس فكانوا يعتقدون أنه يوحنا مرقس المولود في أورشليم (رسل 12 / 12) ورفيق بولس وبرنابا (رسل 12 / 25 و 13 / 5 و 13 و 15 / 37 - 39 وقول 4 / 10) ثم رفيق بطرس في " بابل " أي رومة على الأرجح، وفقا لما ورد في 1 بط 5 / 13.
ويكاد أن يكون إجماع على أن الكتاب ألف في رومة بعد اضطهاد نيرون السنة 64 وقد تدل على