قلت: وهذا في العمرة متجه، لأنه يمكنه فعلها متى وصل إلى مكة، وأما الحج فله وقت مخصوص، فإذا كان الوقت متسعا لم يفت عنه بمروره بالمدينة شئ.
وممن نص على هذه المسألة من الأئمة أبو حنيفة رحمه الله وقال: الأحسن أن يبدأ بمكة، روى ذلك الحسن بن زياد عنه فيما حكاه أبو الليث السمرقندي.
فانظر كلام السلف والخلف في إتيان المدينة إما قبل مكة، وإما بعدها.
ومن أعظم ما تؤتى له المدينة الزيارة، ألا ترى أن بيت المقدس لا يأتيه إلا القليل من الناس وإن كان مشهودا له بالفضل، والصلاة فيه مضاعفة؟!
فتوفر الهمم خلفا عن سلف على إتيان المدينة إنما هو لأجل الزيارة، وإن اتفق معها قصد عبادات أخر فهو مغمور بالنسبة إليها.
وأما ما نقل من تعليل بعض الصحابة بالإهلال من ميقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذلك أمر مقصود، وليس هو كل المقصود، ولعلهم رضي الله عنهم رأوا أنه ميقاتهم الأصلي لما كانوا بالمدينة مع نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم فأحبوا أن لا يغيروا ذلك، وإلا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت لأهل كل بلد ميقاتا، ولعل الاحرام منه أولى، إلا أن يعارضه معارض.
والتابعون الكوفيون الذين اختاروا البداءة بالمدينة لم ينقل عنهم تعليل، فلعل سببه عندهم إيثار الزيارة، ولو كانت العلة الاحرام من ميقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتوها إذا اتفق لهم البداءة بمكة، لفوات الاحرام، فلما اتفقوا على إتيانها - وإنما اختلفوا في البداءة - دل على أن العلة غيره، وهي ما فيها من المشاهد، وأعظمها الزيارة، فهي إما كل المقصود، أو معظمه، وغيرها منغمر فيها.
وممن اختار البداءة بمكة ثم إتيان المدينة والقبر، الإمام أبو حنيفة، كما سنحكيه عنه في الباب الرابع.