ولا يخفى عليك ما في هذا التأويل، أما أولا: فلأنه ينافي تلك المبالغات والاغراقات التي يذكرها أولياء البخاري له في احتياطه في النقل والتزامه بنقل ألفاظ الأحاديث كما هي من غير تصرف، كما لا يخفى على ناظر كلماتهم ومتتبع سقطاتهم. وأما ثانيا: فلأنه ليس تصرف البخاري هذا من النقل بالمعنى، لوضوح الفرق بين " الخوخة " و " الباب " حتى على الأطفال وربات الحجال، فضلا عن ذوي الألباب من الرجال.
وكما حرف البخاري لفظ الحديث عن ابن عباس، كذلك حرفه نقلا عن أبي سعيد الخدري أيضا، فقد عرفت أنه أخرجه عن أبي سعيد في " باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة " بلفظ " الخوخة "، لكنه ذكر نفس الحديث في مناقب أبي بكر في " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر، واضعا لفظ " الباب " بدلا عن " الخوخة " وهذا نص كلامه:
" حدثني عبد الله بن محمد، حدثني أبو عامر، حدثنا فليح قال حدثني سالم أبو النضر، عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر " (1).
وقد بذل شراحه قصارى سعيهم في سبيل عزو هذا التحريف الشنيع إلى رواة الحديث، وأن البخاري نفسه برئ من ذلك... لكن حقيقة الحال لا تخفى على أهل التحقيق، وإن حاول الشراح الاخفاء والتلبيس...