من لم ينكر إنما لم ينكر لأنه لم يجتهد بعد، فلا رأي له في المسألة، أو اجتهد وتوقف لتعارض الأدلة، أو خالفه لكن لما سمع خلاف رأيه روى، لاحتمال رجحان مأخذ المخالف حتى يظهر عدمه، أو وقره فلم يخالفه تعظيما له، أو هاب المفتي أو الفتنة، كما نقل عن ابن عباس في مسألة العول، أنه سكت أولا ثم أظهر الانكار، فقيل له في ذلك، فقال: إنه كان رجلا مهيبا يعني عمر، ومع قيام هذه الاحتمالات لا يدل على الموافقة، فلا يكون إجماعا ولا حجة.
والجواب: بأنها وإن كانت محتملة فهي خلاف الظاهر، لما علم من عادتهم ترك السكوت في مثله، كقول معاذ لعمر لما رأى جلد الحامل: ما جعل الله على ما في بطنها سبيلا، فقال: لولا معاذ لهلك عمر. وكقول امرأة لما نفى المغالاة في المهر:
أيعطينا الله بقوله * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * ويمنعنا عمر، فقال: كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال انتهى.
لا يخفى متانة الاحتجاج وضعف الجواب، لأنا لا نسلم كون كل واحد من الاحتمالات المذكورة خلاف الظاهر، وعلى تقدير التسليم فنقول: لعل كل واحد بخصوصه خلاف الظاهر، لكن وقوع أحدها راجح أو مساو لعدم وقوع شئ منها.
وما ذكره من المثالين وشبههما لا يدل على ترك السكوت دائما ولا غالبا، وحالات المفتي والسامع تختلف اختلافا غير محصور بحسب اختلافهما واختلاف حالاتهما، واختلاف تعلق غرض المفتي بالمسألة، ويشهد على ما ذكرته ما نقل عن ابن عباس، فلا يحصل الظن من عدم الانكار.
لا يقال: نقل الانكار أكثر من نقل تركه مع المخالفة، والظن تابع للأغلب.
لأنا نقول: لعل بعض أمور ترك الانكار مع المخالفة لم ينقل أصلا، فلعله بانضمامه مع ما علم ترك إنكاره مع المخالفة بل من غير انضمام أكثر مما أنكر، ولو سلم حصول الظن من عدم الانكار، فنقول: قد عرفت عدم الدليل على اعتبار مثل هذا الظن.