في الآخرة أدركه. لأنا نقول: لو كان الإدراك معنى يدرك به، لوقف الإدراك على حصوله، لكن ذلك محال، لأنه كان يلزم حصول الشرائط المعتبرة في الإدراك وحصول المقتضي لكون المدرك مدركا ثم لا يحصل الإدراك، لكن لو جاز ذلك لجاز أن يكون بين أيدينا من الجبال العالية والأنهار الجارية ما لا ندركه وإن كنا أحياء، وحواسنا صحيحة، والموانع مرتفعة. لا يقال:
لم لا يجوز أن يكون الله أجرى العادة بفعل ذلك عند حصول هذه الشرائط!
لأنا نقول: نعلم انتفاء ذلك علما بديهيا لا بحسب العادة، ولو طرقنا هذا الاحتمال إلى الضروريات لم يبق وثوق بشئ منها إذ لا سبيل إلى الفرق بين العاديات والبديهيات إلا الجزم بالبديهيات جزما مطلقا عن الالتفات إلى العادة، وأما العاديات، فالعقل يجوز انخراقها بالإمكان، وجوب استمرارها باعتبار العادة، وما أشرنا إليه لو كان عاديا لكان العقل يقضي بالاحتمال فيه، لكن الاحتمال منفي قطعا. والله أعلم.
وأما المنقول فوجوه:
الأول: قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار). (57) وجه الاستدلال أنه تمدح بنفي الرؤية، وكل صفة تمدح بنفيها فإثباتها نقص. أما التمدح فلأن ذلك ورود بين مدحين في أول الآية وآخرها (58)، ومن البين قبح إدخال ما ليس بمدح بين مدحين، وإنما قلنا إنه يفيد نفي الرؤية، لأن الإدراك إذا قرن بالبصر أفاد الرؤية، ضرورة أنه لا يجوز سلب الرؤية معه،