فأرسل الحمامة بعده فرجعت إليه بما أحب من الخبر فدعا الله لها بالطوق في عنقها والخضاب في رجليها قال أبو محمد وقرأت في التوراة أنه لما كان بعد أربعين يوما فتح نوح كوة الفلك التي صنع ثم ارسل الغراب فخرج ولم يرجع حتى يبس الماء عن الأرض وأرسل الحمامة مرة بعد مرة فرجعت حين أمست وفي منقارها ورقة زيتون فعلم أن الماء قد قل عن وجه الأرض وأحسب هذا أصل قولهم " غراب البين " لأنه بان فذهب ولذلك تشاءموا به وزجروا في نعيقه الفراق والاغتراب منه وقولهم " قذفته نوى غربة " و " هذا شأو مغرب " أي بعيد و " هذه عنقاء مغرب " أي جائية من بعيد وما أشبه هذا مشتقا من اسمه لمفارقته نوحا عليه السلام ومباينته إياه وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا لمعصيته إياه وأمر بقتله في الحرم وقال بعضهم سمي غراب البين لأنه يسقط في الديار إثر القوم إذا تحملوا يتقمم والتفسير الأول أعجب إلي والشاهد عليه أقوى وسئل بعض علماء الأعراب لم سمي الغراب غرابا فقال لأنه نأى واغترب وذهب هذا إلى أن اسمه مشتق من الغربة لا إن الغربة مشتقة منه وهذا وجه أيضا ومما يزيد هذا المعنى وضوحا حديث محمد بن سنان العوفي عن عبد الله بن الحارث بن أبزي المكي قال حدثتني أمي ريطة ابنة مسلم عن أبيها قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا فقال لي ما اسمك قلت غراب فقال أنت مسلم كره أن يكون اسمه غرابا لفسق الغراب ومعصيته فسماه مسلما وكذلك كان مذهبه عليه الصلاة والسلام في الاسم إذا كرهه للرجل أن يسميه بضد معناه كقوله لقوم قالوا له نحن بنو زنية فقال أنتم بنو رشدة وكقوله لحزن جد سعيد بن المسيب أنت سهل كذلك ذهب في تسميته بمسلم إلى ضد معنى غراب لأن الغراب عاص والمسلم مطيع مأخوذ من الاستسلام وهو الانقياد والطاعة
(١٠٧)