ثم تكلم المنذر بن الجارود العبدي فقال (1): يا أمير المؤمنين! إننا قد سمعنا مقال معاوية وعمرو بن العاص، غير أنه إذا جاء أمر لا يدفع فامتثل الأمر فيه الرضا، وقد كنا نرى أن ما زادنا من هؤلاء القوم نفعهم وما نفعنا ضرهم. وإن في ذلك أمرين تعجيل هوى أو تأخير مساءة إلى أن ترى غير ذلك، فإن رأيته ففينا من البقية ما تفل له الحد وترد به الكلب، وليس لنا معك إصدار ولا إيراد - والسلام -.
قال: ثم وثب الحارث بن مرة فقال: يا أمير المؤمنين! إننا منا من يقول ما لا يفعل، ومنا من يهوى ما لا يستطيع، وليس ينفعك إلا من فعل واستطاع، وقد والله ذهب الفاعل وضعف المستطيع، ولسنا نحرك من شيء إن كنت قاتلت معاوية لله وقاتلك للدنيا، فقد والله بلغ أهل الدين من الدنيا حاجتهم، وإن كانوا بلغوا منا دون ما بلغنا منهم فإن كنت كرهت هذه القضية وأردت قتالهم فمن مضى بمن مضى ومن بقي بمن بقي - والسلام -.
قال: فجعل كل إنسان يتكلم بما يحضره من الكلام، حتى قام شريك الأعور الهمداني والأحنف بن قيس (2) وحارثة بن قدامة السعدي، فتكلموا وحرضوا، وخاف معاوية أن ينتقض عليه الأمر، غير أنه ينظر إلى وجوه القوم فيعرفهم بأعيانهم وهو في ذلك حنق عليهم، حتى قام عبد الله بن سوار (3) وهو الذي قتل عبيد الله بن عمر فسكن القوم وقال: اسكنوا حتى أتكلم مع أمير المؤمنين بما أريد.
ثم أقبل على علي فقال: يا أمير المؤمنين! والله إننا لنعلم أنك ما أوردت ولا أصدرت إلا ومعك من الله عز وجل برهان وحجة، ونحن ممن يأمر ولا يؤمر عليه، فإن كنت عزمت لم تفل، وإن كنت لم تعزم فالمشورة لله رضا، وليس أول أمر كآخره، لأنه قد نكدر صفونا وقل جدنا، وذهب أهل البصيرة والصبر منا، وبقي أهل الشك والعلل، وفينا أئمة جور ورجال هدى وهم قليل والأمر إليك.