وغاية ما يمكن أن يناقش في دليلية الكلام اللفظي إنما هو باعتبار كشفه الأول مع إشكال فيه ستعرفه، وأما باعتبار كشفه الثاني فلا مانع من اندراجه في الدليل الاصطلاحي، فيكون الكتاب دليلا بهذا الاعتبار، ولا ينافيه اشتراط سبق الدعوى والعلم الإجمالي بالمدعى فيه، لأن المخاطب إذا وجد مخاطبه في معرض الخطاب، فهو يعلم أن له مقصود أو مقاصد وهو مريد لإبرازه له وإفادته إياه، فيكون هذا المعلوم بالإجمال مجهولا تفصيله ويصير بذلك مطلوبا له، لأنه بنظره في كلام المتكلم طالب للعلم التفصيلي بذلك المعلوم بالإجمال.
ولو سلم منع ذلك في كلام كل متكلم، فلا سبيل إلى منعه في الكتاب الذي هو كلام لفظي لله سبحانه، لوضوح الفرق بين كلام ألقاه المتكلم إلى مخاطبه وكلام يبلغه رسوله إليه، لإمكان تطرق الغفلة إلى المخاطب عن غرض المتكلم في الأول بخلاف الثاني، فإنه إذا اطلع على قضية كون ذلك الرسول مرسلا إليه، يعلم إجمالا أن عنده أحكاما راجعة إليه وهو قاصد لتبليغها، فينتظر للعلم التفصيلي بها بالنظر في الكلام، ولا ريب أن الكتاب العزيز من هذا الباب، فالمخاطبون بخطاباته كانوا يلاحظون فيها - بعد علمهم بتضمنها أحكاما راجعة إليهم - إجمالا طلبا لمعرفة تفاصيل تلك الأحكام المعلومة بالإجمال.
ولو سلم منع ذلك أيضا، نقول: إن أريد بدليلية الكتاب كونه دليلا في الاصطلاح مطلقا حتى بالقياس إلى المشافهين الموجودين في مجلس الوحي، فلا داعي إلى التزامها ولا يظن بأحد أنه اعتبره دليلا على هذا الوجه، وإن أريد بها كونه كذلك في الجملة وبالقياس إلى المعدومين فقط بل الغائبين عن مجلس الوحي، فإنكاره حينئذ مكابرة صرفة، ضرورة أن المعدومين لا ينظرون فيه إلا طلبا لمعلوماتهم الإجمالية، وهذا هو معنى سبق الدعوى على إعمال النظر في الدليل، ولذا ترى يتوقف استفادة تفاصيل تلك الأحكام منه على إعمال مقدمات يندفع بها احتمال التجوز والاشتراك والنقل والنسخ والتقييد والتخصيص