القول الأول: أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق، وهذا قول أكثر المحققين، ويدل عليه وجوه الأول: ما ذكره القفال فقال: الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الإختلاف، ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) * (يونس: 19) ويتأكد أيضا بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ: * (كان الناس أمة وحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين - إلى قوله - ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) *.
إذا عرفت هذا فنقول: الفاء في قوله: * (فبعث الله النبيين) * تقتضي أن يكون بعثهم بعد الإختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر، لكانت بعثة الرسل قبل هذا الإختلاف أولى، لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقا وبعضهم مبطلا، فلأن يبعثوا حين ما كانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى، وهذا الوجه الذي ذكره القفال رحمه الله حسن في هذا الموضوع وثانيها: أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة، ثم أدرجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه، وبحسب قراءة ابن مسعود، ثم قال: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) * والظاهر أن المراد من هذا الإختلاف هو الإختلاف الحاصل بعد ذلك الإتفاق المشار إليه، بقوله: * (كان الناس أمة واحدة) * ثم حكم على هذا الإختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة، فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت بسبب البغي، وهذا يدل على أن الاتفاق الذي كان حاصلا قبل حصول هذا الإختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل وثالثها: أن آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولا إلى أولاده، فالكل كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى، ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدين، إلى أن قتل قابيل هابيل بسبب الحسد والبغي، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر، والآية منطبقة عليه، لأن الناس هم آدم وأولاده من الذكور والإناث، كانوا أمة واحدة على الحق، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد، كما حكى الله عن ابني آدم * (إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) * (المائدة: 27) فلم يكن ذلك القتل والكفر بالله إلا بسبب البغي والحسد، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه ورابعها: أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة، وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح، ثم اختلفوا بعد ذلك، وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك، فثبت