لم يبطل حجة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيته انما تثبت به! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وانظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، ولم يندب الا إلى التدبر في آياته، فرفع به أي اختلاف يترائى منها، وجعله هدى ونورا وتبيانا لكل شئ، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شئ بشئ دون نفسه!.
واما المتكلمون فقد دعاهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق وتأويل ما خالف، على حسب ما يجوزه قول المذهب.
واختيار المذاهب الخاصة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وان كان معلولا لاختلاف الانظار العلمية أو لشئ آخر كالتقاليد والعصبيات القومية، وليس هيهنا محل الاشتغال بذلك، الا ان هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا ففرق بين ان يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن؟ أو يقول:
ما ذا يجب ان نحمل عليه الآية؟ فان القول الأول يوجب ان ينسى كل أمر نظري عند البحث، وان يتكى على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم ان هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه.
وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم أعني:
الرياضيات والطبيعيات والإلهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السماوات والأرض وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والأصول الموضوعة التي نجدها في العلم الطبيعي: من نظام الأفلاك الكلية والجزئية وترتيب العناصر والاحكام الفلكية والعنصرية إلى غير ذلك، مع أنهم نصوا