معرفة ذلك تختص بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز، فإن علماء أي صنعة أعرف بخصوصياتها، وأكثر إحاطة بمزاياها، فهم يميزون بين ما يعجز البشر عن الاتيان بمثله وبين ما يمكنهم. ولذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز. أما الجاهل فباب الشك عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلا بمبادئ الصنعة، وما دام يحتمل أن المدعي قد اعتمد على مبادئ معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة، فيكون متباطئا عن الاذعان. ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنه أسرع للتصديق وأقوم للحجة، فكان من الحكمة أن يخص موسى عليه السلام بالعصا واليد البيضاء لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون.
ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والاذعان به، حين رأوا العصا تنقلب ثعبانا، وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الأولى. رأى علماء السحر ذلك فعلموا أنه خارج عن حدود السحر وآمنوا بأنه معجزة إلهية.
وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.
وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح عليه السلام وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، وكان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين، لأنهما كانتا مستعمرتين لليونان، وحين بعث الله نبيه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئا يشبه الطب، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى، وأن يبرئ الأكمه والأبرص. ليعلم أهل زمانه أن ذلك شئ خارج عن قدرة البشر، وغير مرتبط بمبادئ الطب، وأنه ناشئ عما وراء الطبيعة.
وأما العرب فقد برعت في البلاغة، وامتازت بالفصاحة، وبلغت الذروة في فنون الأدب، حتى عقدت النوادي وأقامت الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة. فكان المرء يقدر على ما يحسنه من الكلام، وبلغ من تقدير هم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم، وكتبوها بماء الذهب في القباطي،