أولئك قوم نزع الله ما في قلوبهم من غل وطهرهم تطهيرا، وسلم قبولهم من الريب والشك فأنقاها، فأصبحوا وبطونهم خميصة من أموال الناس، وأيديهم نقية، وظهورهم خفيفة " يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما، وإذا مروا باللغو مروا كراما " (1).
أولئك قوم عرفوا الناس ولم يعرفوهم، بل عرفهم الله منه برضوان، فجعلهم مصابيح الهدى، وجلا بهم كل فتنة مضلة (2).
أولئك قوم عرفوا الدنيا بأبصار عيونهم، وصحبوها بأبدانهم، وعرفوا الآخرة بأبصار قلوبهم، وصحبوها بأرواحهم، فعاينوا بأبصار قلوبهم من ملك الآخرة، كبهجة ما عاينوا بأبصار عيونهم من زينة الدنيا، فزهدوا في الدنيا عيانا، ورغبوا فيما عاينوا بأبصار قلوبهم من ملك الآخرة، فأكلوا قصدا، وقدموا فضلا، وأحرزوا ذخرا، وشمروا في طلب البغية، بالسير الحثيث، والأعمال الزكية، وهم يظنون - بل لا يشكون - أنهم مقصرون! وذلك لأنهم عقلوا حتى آمنوا، ثم آمنوا حتى أيقنوا، ثم أيقنوا حتى تعلموا، ثم تعلموا حتى علموا، ثم علموا حتى غنموا، ثم أشفقوا حتى تفكروا ثم تفكروا حتى أبصروا، فلما أبصروا تسورت عليهم طوارق أحزان الآخرة، وقطع بهم الحزن عن حركات الألسن للكلام، وكلت ألسنتهم من غير عي من محاسن الوصف بالحكمة خوف التزين به فيسقطوا عند الله فأمسكوا، وإن حاجة أحدهم لتتلجلج في صدره، ما يأذن لنفسه في إظهارها خوفا من شر نفسه، فأصبحوا - والله يا أخي مع حسن هذا الوصف - في الدنيا مقهورين، وأمسوا فيها محزونين، مع عقول صحيحة، ويقين ثابت، وقلوب شاكرة، وألسن ذاكرة، وأنفس ذليلة، وأبدان صابرة، وأنفس مقهورة، وجوارح مطيعة، وأهواء معلقة بالملكوت الأعلى، معلقة أمرا عظيما.