المعيار والموازنة - أبو جعفر الإسكافي - الصفحة ٧٣
على ذلك، وتلك منزلة الأب والأم [و] ليس بتلك المنزلة علي بن أبي طالب وأبو بكر [لأنهما] استويا في الولادة في دار الشرك، وفي كفر الأب والأم، ثم اختلفا في الإسلام، فخلص له الفضل على أبي بكر، إذ اتفقت العلل والأسباب، واختلفا في الكفر والإيمان.
وفرق [آخر] أيضا فيما سألتم عني وعن أبي بكر وذلك لأن أبا بكر قد بان مني بأمور كثيرة لا أقاس أنا به، وأكون بهذه الخصلة مقدما عليه، لو كنت له مساويا في الأمور كلها خلاف هذه الخصلة لكنت منه باينا.
وأمور على كلها تؤكد تقدمه عليه وفضيلته في الخصلة التي ذكرناها.
فإن قال قائل: قد نجد لأبي بكر فضيلة في السبق ليست لعلي (1) بدلالة الآية:
[10 / من سورة الحديد] وهي قوله: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " لأنه أسلم أبو بكر وهو ذو مال فأنفقه على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى قال: لقد نفعنا مال أبي بكر.
قلنا: إن الله لم يذكر إنفاق المال مفردا، وإنما قرن معها (2) فضيلة بان بها علي على أبي بكر وهو سبق علي إلى القتال فلما قرن الله الإنفاق مع القتال وكان لأبي بكر الإنفاق (3) دون القتال حصلت الفضيلة لعلي بن أبي طالب بالقتال.

(١) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " لأبي بكر فضيلة في السبق بدلالة الآية.. ".
(٢) هذا هو الظاهر الموافق لما سنذكره عن نقض العثمانية، وفي الأصل: " إن الله إنما ذكر إنفاق المال مفردا وقد قرن معها فضيلة... ".
(٣) هذا من باب المجاملة والتسليم للخصم جدلا، وإلا لم يعهد لأبي بكر إنفاق أبدا، والدليل على عدم كون أبي بكر من المنفقين هو تقاعده مع أخذانه عن مناجاة رسول الله مخافة أن ينقص من مالهم مقدار دانق أو أقل، من أجل التصدق على الفقراء كي يحل لهم المناجاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فتركوا رسول الله وحده ولم يناج معه غير علي بن أبي طالب كان له دينار صرفه بعشرة دراهم، كلما أراد أن يناجي مع رسول الله تصدق بدرهم حتى نسخت الآية الكريمة، ونزل في ذم الممسكين عن النجوى والتصدق. قوله تعالى: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم " [١٤ / المجادلة].
فراجع تفسير الآية: (١٣) من سورة المجادلة من شواهد التنزيل: ج ٢ ص ٢٣١ ط ١، حتى ينكشف لك توغل القوم في اللؤم.
وقال المصنف في رد فخفخة العثمانية وبخبختهم لإنفاق أبي بكر:
أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق [أبو بكر] هذا المال؟ وفي أي وجه وضعه؟ فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه وينسى ذكره.
وأنتم لم تقفوا على شئ أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها يبلغ ثمنها في ذلك العصر مأة درهم.
وكيف يدعى له الإنفاق الجليل وقد باع من رسول الله صلى الله عليه وآله بعيرين عند خروجه إلى يثرب وأخذ منه الثمن في تلك الحال، روى ذلك جميع المحدثين.
وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة موسرا. ورويتم عن عائشة أنها قالت: هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم، وقلتم: إن الله تعالى أنزل فيه: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى " [٢٢ / سورة النور: ٣٤] قلتم: هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة.
فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة.
وأنتم رويتم أيضا: أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال: " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلكم خير لكم " [١٣ / المجادلة]. لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الذي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ".
فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه. وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة!!
فكيف سخت نفسه [أي أبي بكر] بإنفاق أربعين ألفا وأمسك عن مناجاة الرسول، وإنما كان يحتاج إلى إخراج [درهم أو] درهمين.
وساق الكلام إلى أن قال: فأما قوله تعالى: " لا يستوي منكم من أنفق.. " فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال.
وأيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا وإنما قرن به القتال. ولم يكن أبو بكر صاحب قتال وحرب فلا تشمله الآية. وكان علي عليه السلام صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح..
أما قتاله فمعلوم بالضرورة. وأما إنفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره.
وهو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، فنزلت فيه وفي زوجته وابنيه سورة كاملة من القرآن [وهي سورة الدهر].
وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا. ودرهما علانية ليلا، ثم أخرج منها في النهار درهما سرا ودرهما علانية [كذا] فأنزل فيه قوله تعالى: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " [274 / سورة البقرة].
وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة دون المسلمين كافة.
وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع فأنزل الله فيه: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة وهم راكعون، [55 سورة المائدة: 5].
أقول: وليراجع الأخبار الواردة حول شأن نزول هذه الآيات المباركات من كتاب شواهد التنزيل فإنه مغن عن غيره، ويلقم النواصب حجر الحجة. ويجعل أفئدتهم هواءا.
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»
الفهرست