ثم علم الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف ينفق وذلك انه كانت عنده أوقية من الذهب فكره أن تبيت عنده فتصدق بها فأصبح وليس عنده شيء، وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رقيقا، فأدب الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره فقال ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾ (1) يقول: إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال.
فهذه أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين.
وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له: أوص، فقال: أوص بالخمس، والخمس كثير فإن الله تعالى قد رضي بالخمس فأوصى بالخمس، وقد جعل الله عز وجل له الثلث عند موته ولو علم أن الثلث خير له أوصى بها.
ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما. فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاءه رفع من قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل، فقيل له: يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا؟! فكان جوابه أن قال: مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء؟ أما علمتم يا جهله ان النفس قد تلتاث (2) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت. وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاة على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم (3) فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم.