فخرق ثيابه وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم، ويعمل الأشعار ويبكي.
قال أبو بكر الصنوبري: ثم عبرت يوما أنا والمعوج من بستان بتنا فيه فرأيناه جالسا في ظل الدير وهو عريان وقد طال شعره، وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه وعذلناه وعتبناه، فقال: دعاني من هذا الوسواس أتريان ذلك الطائر على هيكل؟ وأومأ بيده إلى طائر هناك فقلنا: نعم. فقال: أنا وحقكما يا أخوي أناشده منذ الغداة أن يسقط فأحمله رسالة إلى عيسى. ثم التفت إلي وقال: يا صنوبري معك ألواحك؟ قلت: نعم.
قال: اكتب:
بدينك يا حمامة دير زكى * وبالإنجيل عندك والصليب قفي وتحملي عني سلاما * إلى قمر على غصن رطيب حماه جماعة الرهبان عني * فقلبي ما يقر من الوجيب عليه مسوحه (1) وأضاء فيها * وكان البدر في حلل المغيب وقالوا: رابنا إلمام سعد * ولا والله ما أنا بالمريب وقولي: سعدك المسكين يشكو * لهيب جوى أحر من اللهيب فصله بنظرة لك من بعيد * إذا ما كنت تمنع من قريب وإن أنامت فاكتب حول قبري * محب مات من هجر الحبيب رقيب واحد تنغيص عيش * فكيف بمن له ألفا رقيب ثم تركنا وقام يعدو إلى باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه وما زال كذلك زمانا، ثم وجد في بعض الأيام ميتا إلى جانب الدير، وكان أمير البلد يومئذ العباس بن كيغلغ فلما اتصل ذلك به وبأهل الرها خرجوا إلى الدير، وقالوا ما قتله غير الرهبان. وقال لهم ابن كيغلغ: لا بد من ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنار، ولا بد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتعصب في ذلك فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم (2).