يعمل شعرا رقيقا، وما كنا نفارق دكانه أنا وأبو بكر المعوج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وكان لتاجر بالرها نصراني من كبار تجارها ابن اسمه عيسى من أحسن الناس وجها، وأحلاهم قدا، وأظرفهم طبعا ومنطقا، وكان يجلس إلينا ويكتب عنا أشعارنا وجميعنا يحبه، ويميل إليه، وهو حينئذ صبي في الكتاب فعشقه سعد الوراق عشقا مبرحا ويعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكانه قوله:
اجعل فؤادي دواة والمداد دمي * وهاك فابر عظامي موضع القلم وصير اللوح وجهي وامحه بيد * فإن ذلك برء لي من السقم ترى المعلم لا يدري بمن كلفي * وأنت أشهر في الصبيان من علم ثم شاع بعشق الغلام في الرها خبره، فلما كبر وشارف الائتلاف أحب الرهبنة وخاطب أباه وأمه في ذلك، وألح عليهما حتى أجاباه وخرجا به إلى (دير زكي) بنواحي الرقة (1) وهو في نهاية حسنه فابتاعا له قلاية ودفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها فأقام الغلام فيها وضاقت على سعد الوراق الدنيا بما رحبت، وأغلق دكانه، و هجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام، وسعد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار، فمما عمل فيه وهو في الدير والغلام قد عمل شماسا (2) يا حمة قد علت غصنا من البان * كأن أطرافها أطراف ريحان قد قايسوا الشمس بالشماس فاعترفوا * بأنما الشمس والشماس سيان فقل لعيسى: بعيسى كم هراق دما * إنسان عينك من عين لانسان؟!
ثم إن الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعد به ونهوه عنه وحرموه أن أدخله وتوعدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما سألوه من ذلك، فلما رأى سعد امتناعه منه شق عليه، وخضع للرهبان ورفق بهم ولم يجيبوه وقالوا:
في هذا علينا إثم وعار ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في، وجهه، ولم يدعوا الغلام يكلمه، فاشتد وجده، وازداد عشقه، حتى صار إلى الجنون