بتعدد المعصومين في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) مع خلو سائر الأزمنة عنهم (3)
(١) وفي كتاب الفصول من العيون والمحاسن (ص ١٠٠) من كلام شيخنا المفيد، أنه استدل أيضا على أن المراد بالصادقين الأئمة (عليهم السلام)، بأن الأمر ورد باتباعهم على الاطلاق، وذلك يوجب عصمتهم وبراءة ساحتهم، والأمان من زللهم، بدلالة اطلاق الأمر باتباعهم.
والعصمة توجب النص على صاحبها بلا ارتياب، فإذا اتفق مخالفونا على نفي العصمة و النص عمن ادعوا له تأويل هذه الآية، فقد ثبت أنها في الأئمة (عليهم السلام)، لوجود النقل بالنص عليهم، والا خرج الحق عن أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وذلك فاسد.
مع أن في القرآن دليلا على ما ذكرناه، وهو أن سبحانه قال: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب و أقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
فجمع الله تعالى هذه الخصال كلها، ثم شهد لمن كانت فيه بالصدق والتقى على الاطلاق، فكان مفهوم معنى الآيتين الأولى وهذه الثانية أن اتبعوا الصادقين الذين باجتماع هذه الخصال التي عددناها فيهم استحقوا اطلاق الصادقين.
ولم نجد أحدا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) اجتمعت فيه هذه الخصال الا أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فوجب أنه الذي عناه الله بالآية، وأمر فيها باتباعه، والكون معه فيما يقتضيه الدين، وذلك أنه ذكر الايمان بالله جلت عظمته واليوم الآخر والملائكة والنبيين.
فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) أول الناس ايمانا به، وبما وصف من الأخبار المتواترة بأنه أول من أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الذكور. ولقول النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة: زوجتك أقدمهم اسلاما وأكثرهم علما.
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا عبد الله وأخو رسول الله، لم يقلها أحد قبلي ولا يقولها أحد بعدي الا كذاب مفتر، صليت قبلهم سبع سنين. وقوله (عليه السلام) وقد بلغه عن الخوارج مقال أنكره: أم يقولون: ان عليا يكذب، فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أول من عبده، أم على رسول الله؟ فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره.
ثم أردف الوصف الذي تقدم الوصف بايتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى و المساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، ووجدنا ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالتنزيل ، وتواترت الأخبار به على التفصيل، قال الله عز اسمه (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) واتفقت الرواة من الفريقين الخاصة والعامة على أن الآية بل السورة نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) وزوجته فاطمة وابنيه (عليهم السلام).
وقال تعالى (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار) الآية، وجاءت الرواية مستفيضة بأن المعني بها أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا خلاف أنه (عليه السلام) أعتق من كد يده جماعة لا يحصون كثرة، ووقف أراضي كثيرة وعينا استخرجها وأحياها بعد موتها، فانتظم الصفات على ما ذكرناه.
ثم أردف ذلك بقوله (وأقامالصلاة وآتى الزكاة) فكان هو المعني بها، بدلالة قوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) واتفق أهل النقل على أنه (عليه السلام) المزكي في حال ركوعه.
ثم أعقب ذلك بقوله عزو جل (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) وليس أحد من الصحابة الا من نقض العهد في الظاهر، أو تقول عليه ذلك الا أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه لا يمكن أحدا أن يزعم أنه نقض ما عاهد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النصرة والمواساة، فاختص بهذا الوصف.
ثم قال: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) ولم يوجد أحد صبر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الشدائد غير أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه باتفاق وليه وعدوه لم يول دبرا، ولم يفر من قرن ولا هاب في الحرب خصما.
فلما استكمل هذه الخصال بأسرها قال الله سبحانه: (أولئك الذين صدقوا) يعني به أن المدعو إلى اتباعه من جملة الصادقين، وهو من دل عليه اجتماع الخصال فيه، وذلك أمير المؤمنين (عليه السلام).
وإنما عبر عنه بحرف الجمع تعظيما له وتشريفا، إذ العرب تضع لفظ الجمع على الواحد إذا أرادت أن تدل على نباهة وعلو قدره وشرفه ومحله، وإن كان قد يستعمل في من لا يراد به ذلك إذا كان الخطاب يتوجه إليه ويعم غيره بالحكم. ولو جعلنا المعنى في لفظ الجمع بالعبارة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لذلك لكان وجها، لأن الحكم جار في من يليه من الأئمة : (عليهم السلام) على ما شرحناه (منه).