عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب».
أقول: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى يزيل تلك الذنوب عن باله وينسيه أيضا لئلا يستحيي منه تعالى بذكرها (دعا عباده في الكتاب إلى ذلك بصوت رفيع لم ينقطع) إلى قيام الساعة في مواضع عديدة منها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) هي أن يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه ومنها قوله: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) (ولم يمنع دعاء عباده) من القبول بل وعده به في قوله: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) وفي قوله (ادعوني استجب لكم) وفي قوله: (فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان) (فلعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله) من الأمر بأداء حقوق ذوي القربى ومودتهم وإطاعتهم وولايتهم والإقرار بفضائلهم وغير ذلك مما ذكر في القرآن الكريم (وكتب على نفسه الرحمة) أي فرضها أو قدرها وهي تستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة وهو المراد هنا لأن الله الملك المتعال لا يوصف برقة الطبع والانفعال.
(فسبقت قبل الغضب) أي سبقت الرحمة إليه تعالى من حيث الصدور أو إلى الخلق من حيث الوقوع قبل الغضب ووصلت قبل وصوله ألا ترى أن بداية نوع الإنسان مثلا ووجوداته وكمالاته بمحض الرحمة والإحسان، ثم الغرض من إيجاده وهو رجوعه إليهما وأن نزول الغضب والعقوبة عليه إنما هو لسوء عمله ومن هنا يظهر أن الرحمة سابقة على الغضب بمراحل (فتمت صدقا وعدلا) لعل المراد بتمامية صدق الرحمة وعدلها وقوعها في موقعها على وجه الصواب إذ لا يتصور الخطأ من رحمته تعالى بخلاف رحمة الإنسان بعضهم بعضا ومن رحمته تعالى أن جعل لعباده خليفة وأوجب طاعتهم له ليستحقوا بذلك الرحمة ثم أشار إلى سبقها على الغضب بقوله:
(فليس يبتدي العباد بالغضب قبل أن يغضبوه) ويفعلوا ما يوجب غضبه وعقوبته كما يبتديهم بالرحمة قبل أن يفعلوا ما يوجب استحقاقهم بها كما عرفت من إحسانهم في الإيجاد وإعطائهم لوازم الوجودات (وذلك من علم اليقين وعلم التقوى) أن ذلك العلم المذكور وهو العلم بأن غضبه على من لم يقبل منه رضاه إلى آخره من علم اليقين الذي لا ريب فيه وعلم التقوى الذي للمطيع الخالص عن شبهات الأوهام (وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه) أن طرحوه من وراء ظهورهم وحين ظرف للرفع وقيد للمبتدأ أيضا والمراد بعلم الكتاب العلم بمواعظه ونصايحه ومجمله ومفصله ومحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه وناسخه ومنسوخه إلى غير ذلك