إليه بتقدير اللام المفيدة للاختصاص تقتضي ذلك وأشار إلى الثانية بقوله: (وثقة الهارب اللاجي) الثقة مصدر بمعنى: الأحكام والاعتماد وغير مصدر بمعنى المحكم والمعتمد، والظاهر أن المراد هنا هو الثاني يعني أن التقوى ثقة للهارب من المكاره والعقوبات في الدنيا والآخرة واللاجي إلى الله منها وإلى هاتين الغايتين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه بقوله: «فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة وفي غد الطريق إلى الجنة» أراد باليوم مدة الحياة وبالغد القيامة يعني أن التقوى في حال الحياة حرز من المكاره وفي الآخرة حرز من العقوبات والشدائد كما ينطق به قوله تعالى:
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) حيث دل على أن التقوى مناط للخروج من المضائق والمفاسد والوصول إلى المنافع والفوائد ثم أمر بالتزامها بقوله: (واستشعروا التقوى شعارا باطنا) الشعار بالكسر وقد يفتح الثوب الذي تلى الجسد لأنه يلي شعره واستشعره لبسه وشعارا إما حال عن التقوى أو مفعول بتضمين معنى الجعل والإتخاذ وإطلاقه على التقوى على وجه استعارته من الثوب لها والوجه ملازمة الجسد والإحاطة به مع الإشعار بلزوم خفائها وخلوصها عن الرياء والسمعة كخفاء الشعار بالدثار وفي وصفه بالباطن لقصد الإيضاح إيماء إليه ثم أمر بعد الحث على التقوى بما هو عبادة وأصل لجميع العبادات بل هو روح لها بقوله:
(واذكر الله) بالقلب واللسان وعند الطاعة والمعصية (ذكرا خالصا) من الرياء والسمعة فإنكم إن ذكرتموه (تحيوا به أفضل الحياة) في الجنة مع الأبرار أو أراد به حياة القلب بروح الأذكار (تسلكوا به طريق النجاة) من العقوبات وهي طريق الجنة فإن الذكر مع كونه عبادة وسببا لسلوك طريقتها سبب أيضا لكمال غيره من العبادات الباعثة للنجاة (انظروا في الدنيا نظر الزاهد المفارق لها) أمر بترك الدنيا واحتقارها إلا بمقدار الضرورة، علل ذلك بذكر معايبها المنفرة عنها بقوله:
(فإنها تزيل الثاوي الساكن) أي تزيل المقيم الساكن المطمئن إليها عما ركن إليه منها (وتفجع المترف الأمن) الفجع: الإيجاع والإيلام فجعه كمنعه أوجعه كفجعه والترفة بالضم: النعمة والطعام الطيب والشيء الطريف أترفته النعمة أطعمته والمترف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء والمتنعم لا يمنع من تنعمه الحياء. أي الدنيا تفجع المتنعم بها الذي خدعته بأمانيها بسلب ما ركن إليه وأمن عليه زوال ماله وتغير حاله أو المراد بالأمن الأمن من الموت وما بعده فإن المترف الغافل حال إنهماكه في لذات الدنيا لا يعرض له خوف الموت بل يكون في تلك الحال آمنا منه (ولا يرجى منا ما تولى فأدبر) أي أعرض وولى الدبر من شباب وصحة ومال وعمر ونحوها.
(ولا يدري ما هو آت منها فينتظر) إذ لا علم بالمستقبل منها من خير فينتظر وروده ولا من شر فيحترز منه (وصل البلاء منها بالرخاء والبقاء منها إلى فناء) وصل الشيء بالشيء وصلا وصلة بلغة وانتهى إليه وفيه تحريك للغافل بأن لا يرضى بالرخاء المتصل بالفناء.