طم سيل الالحاد والزندقة. فوجد الخلفاء في المعتزلة سيفا مسلولا على الزنادقة لم يغلوه، بل شجعوهم على الاستمرار في نهجهم. ويقول الشيخ أبو زهرة: كان جدال المعتزلة بقوة وحسن دليل. وفصاحة وبيان وقدرة على الإقناع اكتسبوها من علومهم وممارستهم الجدال، حتى أن بعض خصومهم من غير المسلمين كانوا يسلمون بعد مناقشتهم، ولقد قال مؤرخو المعتزلة: أن أبا الهذيل العلاف أسلم على يديه أكثر من ثلاثة آلاف رجل من من المجوس، لحذقه وبراعته في المناظرة، وقوة ما يدعو إليه وضعف ما يدعون إليه (1). وظل المعتزلة يحطمون أسوار الجهل الذي ألقي على كاهل الأمة من كل مكان، فلما جاء المأمون وقد كان يعتبر نفسه من علماء المعتزلة شايعهم وقربهم وأدناهم وجعل منهم حجابه ووزراءه. وكان يعقد المناظرات بينهم وبين الفقهاء لينتهوا إلى رأي متفق.
واستمر على ذلك حتى توفى سنة 218 ه (2). ومن أقوال المأمون: من علامة الشريف أن يظلم من فوقه ويظلمه من هو دونه. وقال أيضا: لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو، ليذهب عنهم الخوف. ويخلص السرور إلى قلوبهم (3). وقال: أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى. وقال: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة، لأن غلبة القدرة تزول بزوالها. وغلبة الحجة لا يزيلها شئ. وقال: لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال (4).
وكان المأمون يقرب آل البيت إليه، وعلى رأسهم الإمام أبي الحسن الرضا رضي الله عنه. وروي أن المأمون أراد أن يقلد الرضا ولاية العهد من بعده، لتكون الخلافة في أفضل آل أبي طالب. ولكن الرضا أبى عليه إباءا شديدا لأسباب عديدة نراها. منها: أن قرار مثل هذا هو بمثابة قرار فوقي. وهذا لا يستقيم مع حركة أهل البيت التي لا تبحث عن الحكم وإنما تبحث عن الجماهير