بالتشريع وإجراء المشروع، وهذه مصلحة مهمة يحفظ بحكمتها سائر المصالح.
وإذا توجهت بعقلك ووجدانك إلى ما ذكرنا حكمت بالبداهة بإمكان النسخ في الشرائع الإلهية بل تحكم بلزومه بمقتضى الحكمة واللطف في بعض الموارد، فإن استوضحت وقلت كل حكم شرعي يراعي فيه معدل المصلحة لكافة البشر والقدر الجامع الذي تتساوى فيه جميع أطوار الناس وأخلاقهم في جميع الأزمان فلا يبقى محل للنسخ.
قلنا: إن من الأمور ما لا تختلف جهته باختلاف الأزمان والأحوال كالزنى مثلا، وهذا لا يعتريه النسخ لحرمته، وأما ما تختلف جهته بحسب الأعصار والأحوال كما ذكرنا فإن كنت تقول بجواز مراعاة معدل المصلحة فيه من غير لزوم فذلك لا ينافي ما ذكرناه لإمكان وقوع النسخ وإن كنت تقول بلزومه سألناك أولا ما هو الملزم به ومن الملزم؟ ونبهناك ثانيا إلى أن سياحة الفكر في تقلب الأحوال البشر بحسب الأعصار والأخلاق والعادات حسبما شرحنا بعضه لتكشف لكل مميز وتعرفه بأن مراعاة معدل المصلحة على ما تقول لا تنفك عن حرمان أكثر الناس من بركات اللطف بهم ومقتضيات مصالحهم، وما هو الداعي لذلك مع إمكان أن يعمهم اللطف باستيفاء بركات مصالحهم على مقتضى الحكمة من دون مانع ولا فساد.
فإن قلت إذا فما بال اليهود والنصارى ينكرون إمكان النسخ ووقوعه حتى أن بعض كتابهم ليشددون النكير على القول بالنسخ ويبالغون في امتناعه على جلال الله.
قلت: إن كان شكك من هذه الجهة فإنا نشكرك على إبدائها فاعلم أنا لم نبخس اليهود والنصارى في ابتداء الأمر حقهم من حس الظن ولأجل ذلك تتبعنا كتبهم التي ينسبونها إلى الإلهام والوحي ونظرنا في نحلهم التي عكفوا عليها وشريعة جامعتهم في يهوديتهم أو نصرانيتهم فوجدنا اليهودية قد كثر فيها النسخ نقلا عما قبلها ونسخا لما تقدمها ونسخا لما جاء فيها ووجدنا النصرانية الرائجة قد بنى أساسها وسيج بنيانها ودار محورها على دعوى معنى النسخ الذي نقول به بل على ملا شاة الشريعة السابقة وأحكامها، ولم نجد وجها صحيحا لما تذكره عنهم