وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا.
ما لك لا تنتبه من نومتك وتستقل من عثرتك فتقول: والله ما قمت لله مقاما واحدا أحيي له فيه دينا ولا أمت فيه باطلا، إنما شكرك لمن استحملك كتابه واستودعك علمه، فما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى). إنك لست في دار مقام وإخلاد، أذنت بالرحيل فما بقاء امرئ بعد أقرانه. طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده. إنك لن تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلا أن تتركه على ظهرك، ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، احذر فقد أتيت وتخلص فقد ذهبت. إنك تعامل من لا يجهل والذي يحفظ عليك لا يغفل، تجهز فقد دنا منك سفر بعيد، وداو دينك فقد دخله سقم شديد. ولا تحسبني أني أردت توبيخك أو تعييرك وتعنيفك، ولكن أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما غرب عنك من حلمك، وذكرت قوله تعالى (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب. فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه، وهل تراه ادخر لك خيرا منعوه، أو عملت شيئا جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة. وكلفهم بك، أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن أحللت أحلوا وإن حرمت حرموا، وليس ذلك عندك ولكنهم أكبهم عليك رغبتهم فيما في يدك وتغلب عماهم وغلبة الجهل عليك وعليهم وحب الرياسة وطلب الدنيا منك ومنهم. أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة، ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت ويبلغوا منه مثل الذي بلغت، فوقعوا منك في بحر لا يدرك قعره وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.