أصبحت شيخا كبيرا قد أثقلتك نعم الله عليك بما أصح من بدنك وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله تعالى بما حملك من كتابه وفقهك فيه من دينه وفهمك من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك وكل حجة يحتج بها عليك الغرض الأقصى، ابتلى في ذلك شكرك وأبرء فيه فضله عليك، وقد قال: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).
أنظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله فيسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها، ولا تحسبن الله تعالى راضيا منك بالتغرير، ولا قابلا منك التقصير، هيهات ليس كذلك في كتابه إذ قال: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم) الآية. إنك تقول: إنك جدل ماهر عالم، قد جادلت الناس فجدلتهم وخاصمتهم فخصمتهم، إدلالا منك بفهمك واقتدارا منك برأيك، فأين تذهب عن قول الله تعالى: (ها أنتم هؤلاء جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) الآية.
إعلم أن أدنى ما ارتكبت وأعظم ما اقتفيت أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت وبإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينوه باسمك غدا مع الجرمة، وأن تسئل بإغضائك عما أردت عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقا ولا يرد باطلا حين أدناك، وأجبت من أراد للتدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطبا تدور رحى باطلهم وجسرا يعبرون بك إلى بلائهم، وسلما إلى ضلالتهم، وداعيا إلى غيهم، سالكا سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم. فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس مبجلا، وكيف صيانتك من جعلك بكسوته ستيرا،