بحديث آخر - ولو كان غير معروف عند أئمة الحديث - والحديث الذي عارضوه ثابتا في الصحيحين، بل مما أخرجه أصحاب الكتب الستة. ومن نظر في شروح الصحيحين اتضح له الأمر، وقد ترك بعضهم المجاملة للمحدثين، فصرح بأن ترجيح الصحيحين على غيرهما ترجيح من غير مرجح، والذين جاملوا اكتفوا بدلالة الحال. وقد أشار إلى ذلك العز بن عبد السلام في (كتاب القواعد) فقال:
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها التأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس، فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه، تعجب منه غاية العجب من غير استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه، ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره! فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة 3 يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره!
بل يصر عليه مع علمه بضعفه وبعده. فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه، قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم اهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكر من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره، حتى حمله على مثل ما ذكرته.
وفقنا الله لاتباع الحق أين كان وعلى لسان من ظهر. انتهى كلام العز.