(العاشر): وحيث إن توهم كون أحاديث البخاري ومسلم مقطوعا بصحتها مشهور بين أهل العلم المغالين والمحدثين الغافلين، وله آثار عميقة مضرة على شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وأضل كثيرا من الناس، فلا بد من قطع جذوره بأتقن وجه، وأن الأمة لم تجتمع على صحتها كما يتخيلون، فلا بد أن نقف لحظات لنسمع ما يقول الجزائري في كتاب توجيه النظر في رد قول ابن الصلاح: إن الأمة تلقت أحاديث البخاري ومسلم بالقبول، وها إليك كلامه: إنه لم يبين ماذا أراد بالأمة! ولا ماذا أراد بتلقيها إياهما بالقبول! وقد كان عليه أن يبين ذلك حتى لا تذهب العقول والأفهام في ذلك كل مذهب.
فإذا أراد بالأمة كل الأمة فلا يخفى فساده، لأن الكتابين إنما حسنا في المئة الثالثة بعد عصر البخاري وأئمة المذاهب المتبعة، وإن أراد بعضها - وهم من وجد بعد الكتابين - فهم بعض الأمة فلا يستقيم دليله، وإن أراد بالأمة علماءهم - وهو الظاهر - فإن العلماء في هذا الأمر ثلاثة أقسام:
المتكلمون، والفقهاء، والنحويون، على أن العلماء الذين ينطبق عليهم هذا الوصف إنما هم الذين جاءوا بعد ظهور هذين الكتابين، في القرن الثالث الهجري، أما من قبلهم من أهل القرون الأولى الذين جاء فيهم حديث رفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون! فهم جميعا لم يروا هذين الكتابين حتى كان يعلم رأيهم فيهما، ولا كيف تلقوهما! ولنعد إلى العلماء الذين جاءوا بعد هذين الكتابين لنرى موقفهم منهما، وبماذا قابلوهما!
أما المتكلمون: فقد عرف من حالهم أنهم يردون كل حديث يخالف ما ذهبوا إليه، ولو كان من الأمور الظنية، فإذا أورد عليهم من ذلك حديث صحيح عند المحدثين أولوه، إن وجدوا تأويله قريب المأخذ، أو ردوه مكتفين بقولهم: هذا من أخبار الآحاد وهي لا تفيد غير