وعلوم الإنسان وتجربياته وأبحاثه يستحيل أن تتناول شيئا لا يعرفه ولا يقع تحت تجربيته واختباره إلا بعد موته وانتقاله من هذا العالم - عالم الحس والتجربية والبحث - فكيف ينتظر منه أن يحكم باستقلال تفكيره وتجربته بنفي هذا الشئ أو إثباته، فضلا عن أن يتناول تفاصيله وخصوصياته إلا إذا اعتمد على التكهن والتخمين أو على الاستبعاد والاستغراب، كما هو من طبيعة خيال الإنسان أن يستغرب كل ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسه كالقائل المندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد " من يحيي العظام وهي رميم ". ولا سند لهذا الاستغراب إلا أنه لم ير ميتا رميما قد أعيدت له الحياة من جديد، ولكنه ينسى هذا المستغرب كيف خلقت ذاته لأول مرة، ولقد كان عدما، وأجزاء بدنه رميما تألف من الأرض وما حملت ومن الفضاء وما حوى من هنا وهنا حتى صار بشرا سويا ذا عقل وبيان " أو لم ير الإنسان أنا خلقنا من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ".
يقال لمثل هذا القائل الذي نسي خلقه: " يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليهم " يقال له: إنك بعد أن تعترف بخالق الكائنات وقدرته، وتعترف بالرسول وما أخبر به، مع قصور علمك حتى عن إدراك سر خلق ذاتك وسر تكوينك، وكيف كان نموك وانتقالك من نطفة لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفا من ذرات متباعدة، لبلغ بشرا سويا عاقلا مدبرا ذا شعور وإحساس. يقال له: بعد هذا كيف تستغرب أن تعود لك الحياة من جديد بعد أن تصبح رميما، وأنت بذلك تحاول أن تتطاول إلى معرفة ما لاقبل لتجاربك