ثم انه روى ابن أبي الحديد وغيره انه لما سمع أبو بكر خطبتها المذكورة، وما وقع بين الناس من الاختلاف والهمهمة في سوء تلك المقدمة، وخاف أن تنعكس القضية، شق عليه ذلك فصعد المنبر فقال:
أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة؟ أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله؟ ألا من سمع فليقل ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا اني لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، اني ساكت ما تركت.
ثم التفت إلى الأنصار فقال: يا معشر الأنصار قد بلغني مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا اني لست باسطا يدا ولسانا على من لم يستحق ذلك منا، ثم نزل (1).
قال ابن أبي الحديد: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له: بمن يعرض؟ فقال: بل يصرح، قلت: لو صرح لم أسألك، فضحك فقال: بعلي بن أبي طالب، قلت: هذا الكلام كله لعلي يقول؟ قال:
نعم انه الملك يا بني، قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بقول علي، فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم.
فسألته عن غريبه فقال: اما الرعة - بالتخفيف - أي الاستماع والإصغاء، والقالة: القول وثعالة: اسم الثعلب علم غير مصروف مثل ذؤالة للذئب، وشهيده ذنبه: أي لا شاهد له على ما يدعيه إلا بعضه وجزء منه، وأصله مثل قالوا: إن الثعلب إذا أراد أن يغري الأسد بالذئب فقال: انه قد أكل الشاة التي كنت أعددتها لنفسك وكنت حاضرا، قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه وعليه دم، وكان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته وقتل الذئب.
ومرب: ملازم من أرب بالمكان، وكروها جذعة: أعيدوها إلى الحال الأولى