أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة وإلا فهو معجزة.
وقال الله تعالى: وقالوا: (لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين) (العنكبوت / 50) (أو لم يكفهم أنا نزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (العنكبوت / 51) فأخبر أن الكتاب آية من آياته كان في الدلالة قائم مقام معجزات غيره، وآيات من سواه من الأنبياء وقد جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء، وتحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين، فلم يقدروا ثم تحداهم بعشر سور منه، ثم تحداهم بسورة، فلما عجزوا عن معارضته والاتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن، هذا وهم الفصحاء الذين كانوا أحرص شئ على إطفاء نوره، وإخفاء أمره، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعا للحجة، ولم ينقل عن أحد منهم أن حدث نفسه بشئ من ذلك ولا رامه بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى، فتارة قالوا: " سخر " للطافته، وتارة قالوا: " سحر " لحسن نظمه وفصاحته، وقال آخرون إنه أساطير الأولين، لاستغرابهم معانيه، وقال آخرون: " قول الكهنة " لتحيرهم فيه، كل ذلك من التحير والانقطاع، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم واستباحة أموالهم، وقد كانوا أنف شئ وأشده حمية، فلو علموا أن الاتيان بمثله من قدرتهم لبادروا إليه، لأنه كان أهو عليهم.
وقال بعض العلماء: الذي أورده صلى الله عليه وسلم على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الاتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من فلق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمه، انه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورواد البيان والمتقدمة في اللغز بكلام مفهوم المعنى وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد عسى صلى الله عليه وسلم عند إحياء الموتى لانهم كانوا لا يطمعون فيه، ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة، وقال القاضي: معجزات الرسل كانت واردة على أيديهم بقدر أحوال أهل زمانهم، وكانت بحسب المعنى الذي علا واشتهر فيه، فلما كان زمن موسى صلى الله عليه وسلم غاية علم أهل السحر بعث إليهم بمعجزة العصا حية واليد السمراء يدا بيضاء من غير سوء لم يكن ذلك المعجز في قدرتهم، وقد أبطل ما جاءهم منها بسحرهم، وكذلك زمن عيسى صلى الله عليه وسلم كان انتهاء ما كان عليه أهل الطب، وأوفر ما كان في أهله فجاءهم على يديه صلى الله عليه وسلم أمر لا يقدرون عليه لاستحالة إتيانهم كغيرهم به وأتاهم بما لم يخطر لهم ببال من إحياء الموتى وإبراء الأكمه الذي ولد ممسوح العين والأبرص، وهو الذي بيده بياض فكان يأتيه من أطاق