كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم وقطعوا عنهم المارة والميرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعا، صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم، وانقطع رجاؤهم، فمن الذي خلص اليه مكروه تلك المحن بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا علي (عليه السلام) وحده! وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة من تقصي معانيها، وبلوغ غاية كنهها وفضيلة الصابر عندها! ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين، حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة، والقصة مشهورة.
وكيف يستحسن الجاحظ نفسه أن يقول في علي (عليه السلام) انه قبل الهجرة كان وادعا رافها، لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وهو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه ووقاه بمهجته، واحتمل السيوف ورضخ الحجارة دونه، وهل ينتهي الواصف وان أطنب والمادح وان أسهب إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة، والايضاح بمزية هذه الخصيصة!
فأما قوله: ان ابا بكر عذب بمكة، فانا لا نعلم ان العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف (1)، أو لمن لا عشيرة له تمنعه، فأنتم في أبي بكر بين امرين: فتارة تجعلونه دخيلا ساقطا، وهجينا رذيلا، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا، وكبيرا مطاعا، فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب، لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر، لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه، كقوله تعالى (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) (2)، قالوا: نزلت في خباب وبلال، ونزل في عمار قوله (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (3).