الهجرة! هل نسيته أم تناسيته! فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر، وأجال فكره فيها، رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متغايرة، وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجمع على الخروج من بينهم للهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معالجته، وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه، وان يضربوه بأسياف كثيرة، بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها، ليضيع دمه بين الشعوب، ويتفرق بين القبائل ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش وتحالفوا على تلك الليلة واجتمعوا عليها، فلما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك من امرهم، دعا أوثق الناس عنده، وأمثلهم في نفسه وأبذلهم في ذات الإله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته فقال له: ان قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة فامض إلى فراشي، ونم في مضجعي، والتف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج، واني خارج: إن شاء الله، فمنعه أولا من التحرز واعمال الحيلة، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق والغيظة فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه، ونام على فراشه صابرا محتسبا، واقيا له بمهجته، ينتظر القتل، ولا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر، ولا يبلغها طالب، " والجود بالنفس أقصى غاية الجود "، ولولا ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علم أنه أهل لذلك، لما أهله، ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه، واختير لذلك لكان من اختاره (صلى الله عليه وآله وسلم) منقوضا في رأيه، مضرا في اختياره، ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الاسلام، وكلهم مجمعون على أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عمل الصواب وأحسن في الاختيار.
ثم في ذلك - إذا تأمله المتأمل - وجوه من الفضل: