انكشاف الأمور له أظهر والإسلام عليه أسهل والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا، وكل ذلك عون لابي بكر على الاسلام، ومسهل اليه سبيله، ولذلك لما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " اتيت بيت المقدس " سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه، فصدقه وبان له امره، وخفت مؤونته لما تقدم من معرفته بالبيت، فخرج إذا اسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب، وفي ذلك رويتم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا وكان له تردد ونبوة، إلا ما كان من أبي بكر، فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام، فأين هذا واسلام من خلي وعقله وألجئ إلى نظره، مع صغر سنه، واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته في ضد ما دخل فيه، والغالب على أمثاله واقرانه حب اللعب واللهو فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر اسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته وغالب خواطره، وخرج من عادته وما كان غذي به لصحة نظره، ولطافة فكره، وغامض فهمه، فعظم استنباطه، ورجح فضله وشرف قدر اسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا، وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شرة حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا واشغل هم الآخرة قلبه ووجه اليه رغبته! فاسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره، وما سبيله في ذلك الا كسبيل الأنبياء، ليعلم ان منزلته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كمنزلة هارون من موسى، وانه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا ولمنهاجهم متبعا، وكانت حاله كحال إبراهيم (عليه السلام). فان اهل العلم ذكروا انه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لامه: من ربي؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ فزبرته ونهرته، إلى أن طلع من شق السرب، فرأى كوكبا، فقال: هذا ربي فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة
(١٠٥)